نهاد بنت محمد الجشي.. من أوائل النساء اللاتي دخلن مجلس الشورى، ومن الكفاءات العلمية والفكرية العالية؛ لما امتازت به من عمق ثقافي وحضور اجتماعي وقدرة أدبية عالية، فبالرغم من تخصصها الطبي كاستشاري طب أطفال حديثي الولادة، إلا أن ذلك لم يمنعها من خدمة مجتمعها، ومتابعة تنامي الفكر والأدب، وليس ذلك بمستغرب وهي ابنة الشاعر الكبير محمد سعيد الجشي -يرحمه الله-، وأخت الشاعر والأديب المعروف عبدالله الجشي.. استضافتها (اليمامة)؛ لتسرد لنا مشوار العمر، وما تخلله من محطات نجاح.
* أين كان مولدكِ.. وتحت أي سماء عشتِ فترة الطفولة والصبا؟
– نشأت في مدينة القطيف، في قلعة القطيف بالتحديد، حيث يلتحف جسدها بخضرة الملايين من النخل، وتغتسل أقدامها بزرقة مياه الخليج، وتباهي بصحبتها صحارى الشمال والغرب، حيث ائتلاف طبيعة البحر والصحارى مع الخضرة الآسرة، تعتمر تاريخاً حضارياً تلونه عادات مبهجة غنية بعذوبة المعنى، فرح الموالد وحزن الوفيات. ويحتدم وجدانها بتطلعات التغيير وطموح المواكبة، هكذا تكتحل عيون الطفولة بشموس الآتي بين بيتي جدي لأمي وجدي لأبي، حيث تلتصق بيوت العائلة بحميمية من شموخ بواباتها الفارهة ودهاليزها المعتمة حتى إنزياحات الضوء في طبقاتها الأربعة بين الضوء والظل تبرز نقوشها الجصية المبدعة، وأعمدتهاالمتمايزة بأقواس متعددة الزخارف، سقوف عالية وأروقة تتسع طبقاتها تصاعداً من الدهاليز المعتمة إلى سعة (الحوي والمربعة والشمسة ثم المصبح)، مسميات لما يقابل غرفة العائلة الآن كل مسمى يرتبط بطابق بعينه، وصولاً للخلوة الغرفة المفتوحة على الجهات الأربع.
بين أزقة القلعة وبراحاتها المفتوحة على السماء و(سوابيطها) المسقوفة و(زرانيقها) المعتمة الضوء المشرقة محبة وأمناً كانت الطفولة تختزل بثراء اللحظة، وكثافة الحدث، تتوارى سريعاً بتفتح الوعي والنضج المبكر واقتحام مرحلة اليفاعة بزخم الطموح، كما هو حال أقران تلك المرحلة.
فرح البراءة وخزان البهجة
* ما الأحداث الأكثر إيلاماً حين تعودين بالذاكرة لزمن الطفولة؟
– الطفولة تتأرجح بين الضوء والظل، ولكنها بالمجمل فرح البراءة وخزان البهجة، فلماذا نقدم العتمة. أنا متفائلة الطبع، اصطاد إيجابيات اللحظة، وأتجاوز معرقلات الحركة، وطنت نفسي أن أعتقل إشراقة الفرح، وأتجاوز عتمة الحزن، ودعني أشاركك الطفولة الملونة ببهجة العادات المحلية الخاصة بالأطفال (كريكشون) النصف من شعبان وناصفة رمضان، حيث نخرج نحن الصغار زرافات بأثواب جديدة زاهية نطرق أبواب الجيران، منشدين الأهازيج، نتلقى على إثرها الحلاوة والفول السوداني، محفوفين بأصوات الصلوات والأدعية المتصاعدة من المساجد. وأيام الدوخلة في شهر ذي الحجة، حيث يزرع لكل طفل وطفلة نباتات بقولية في قفص من الخوص، يرعاها الطفل حتى تضج بخضرة الحياة، ثم تلقى في البحر قبل عيد الأضحى بأهازيج خاصة مفعمة بالرجاء والأمل والدعوات بعودة الحجاج سالمين. وليالي رمضان بفوانيسه الصغيرة، وتميز جمعات الفتيات خاصة في دوريات ليلية كالعزائم حتى إنقضاء الشهر الكريم.
* رحلة الألف ميل في ميدان التحصيل الدراسي.. من أين بدأت وإلى أين انتهت؟
– أبجدية الحرف تجذرت في (المعِلم)، وهو ما يقابل الكتاب عند البعض، حيث تتولى المعلمة تدريس الأطفال أناثاً وذكوراً معاً، ثم يتم إلحاق الذكور عند بلوغ التاسعة من العمر بمعلم البنين، بينما تستمر الفتيات عند المعلمة حتى ختم القرآن وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت رحلتي في هذا الجانب قصيرة جداً لم تتعد شهور الصيف، ولكنها ثرية بذكريات العادات من احتفالية الانضمام للمعلم، وختم أجزاء القرآن، ثم ختمه بالكامل. وعادات الصيف والتوجيه التربوي. ثم التحقت بما يشبه المدرسة الأهلية لعدة شهور، كان عمري عندها لا يتجاوز الخامسة، حيث سعى بعض شباب القطيف آنذاك للاستفادة من وجود زوجات مدرسي البنين الوافدات؛ لتعليم بناتهن، وقد كانوا من أوائل المطالبين بالتعليم الحكومي للبنات، ومنهم خالي الأديب والشاعر عبدالله الجشي رحمه الله.
وكانت هذه المرحلة لم تتجاوز الأشهر أيضاً إذ افتتح التعليم الرسمي للبنات والتحقت بالمدارس الحكومية. درست المرحلة الابتدائية والمتوسطة بمدينة القطيف، ثم المرحلة الثانوية بمدينة الدمام؛ لإتمام المسار العلمي؛ إذ لم يتوافر في القطيف في ذلك الوقت سوى المسار الأدبي، وكان توجهي الدراسي علمياً إذ كنت الأولى على المنطقة الشرقية والتاسعة على المملكة في شهادة الكفاءة المتوسطة. بعد حصولي على الثانوية العامة، لم تكن الدراسة الجامعية متاحة إلا في كلية البنات، ولم تكن لديَّ الرغبة في الانضمام إليها، فانتسبت لدراسة العلوم الاجتماعية بجامعة الرياض لمدة سنة، وفتحت كلية الطب في جامعة الرياض في السنة التي تليها، فقبلت فيها بعد اجتيازي امتحان القبول، والتحقت بكلية الطب. تخرجت وعملت في مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض معيدة، وحصلت على شهادة التخصص في طب الأطفال من المجلس العربي للاختصاصات الطبية، والمجلس الأردني أيضاً، كما حصلت على دبلوم تخصص بأمراض الأطفال من إيرلندا. انتقلت بعدها للعمل بمستشفى الولادة والأطفال بالدمام، ثم عدت إلى مدينة الرياض، حيث أكملت تخصصي الدقيق في أمراض الأطفال حديثي الولادة، هكذا بدأت رحلة التحصيل العلمي ولم تنته؛ فالمستجدات العلمية تحتم متابعة التحصيل بالممارسة، والقراءة، وحضور المؤتمرات العلمية.
* ما تأثير الوالدين في مسيرة تحصيلكِ الدراسي ونتاج مشواركِ العلمي؟
– لوالديِ أثر كبير في تحصيلي العلمي، والدور الأكبر كان لخالي الأستاذ الشاعر عبدالله الجشي، فبحكم أن والدتي وخالي شقيقان لا ثالث لهما، كان ارتباطهما ببعض لصيقاً جداً، وكان حضور خالي مميزاً وفاعلاً في كل مفاصل حياتي، فهو أول من اكتشف ميولي الأدبية والعلمية وعمل على رعايتها وتوجيهها، وبحكم أنه من بين أوائل مواطني مدينة القطيف المطالبين بتعليم البنات، فقد حرص على تذليل كل العقبات لمواصلة تعليمي، وكان دعمه ورعايته المستمرة عاملاً رئيسياً في كل ما حققت في مسيرتي الحياتية، فقد كان سنداً قوياً لوالدتي التي حرمت من التعليم بحكم مركز والدها الديني (جدي العلامة الشيخ علي الجشي)، رغم نشأتها في بيئة متعلمة (العراق) آنذاك، إلا أن جدي وهو عالم دين مجتهد تولى القضاء في مدينة القطيف لاحقاً، لم يسمح لها بالالتحاق بالمدارس الرسمية، ورغم أنها دارسة للقرآن الكريم، وتتقن القراءة ومبادئ الكتابة، إلا أن حرمانها من التعليم العام بقي حسرة جعلتها تقف وراء تعليمنا ومواصلته بقوة، وتمكنت من أن تجعل التعليم أولوية حياتية لدينا، ونحن مدينون لها بذلك. كما أن ثقافة والدي الموسوعية واطلاعه، لعب دوراً مهماً في هذا الاتجاه.
أنتمي لجيل التجسير
* من تتذكرين من زميلات الطفولة والصبا.. ممن أصبح لهن حضور في الزمن الحاضر؟
– أنتمي لجيل التجسير بين مرحلة ما قبل الطفرة وبعدها. آباؤنا شكلوا مرحلة احتدام الرؤى وانطلاقة البناء، فلا عجب أن كبرنا بأحلام الوطن، ربينا على أننا جيل النهوض به، متجاوزين الأنا إلى النحن، طموحنا وتطلعاتنا مكتملة بتوظيفها لصالحه. في البدء لم يكن العمر محدداً، لذلك مجيالي في الدراسة متفاوتات في الأعمار، متوافقات في الطموح، حتى أن البعض منهن أمهات، جلهن أصبحن جامعيات، والبعض منهن حملته أجنحة الغربة مع أزواجهن وعدن جامعيات، وأخريات انتسبن للجامعة وتخرجن. صديقاتي الطبيبات جلهن تخصصن وأصبحن استشاريات، منهن الدكتورة زينب أبوطالب، والدكتورة لبنى الأنصاري، والدكتورة مها المنيف. ومن زميلاتي من ليس لهن حضور إعلامي، ولكنهن حاضرات مبدعات ومعطاءات في مجالهن.
للتخصص قصة أخرى
* من الذي أوجد فيكِ حب التخصص في المجال الطبي، وتحديداً في طب الأطفال حديثي الولادة؟
– كيف ولدت الرغبة في دراسة الطب لا أعلم، إلا أن عقلي مذ وعيت يوجهني هذا الاتجاه، ولم أتخيل نفسي في مجال آخر إلا مجال الأدب كمتلازم، إلا أن للتخصص قصة أخرى، كنت أطمح للتخصص في الأمراض الصدرية طوال دراستي، حتى بدأت دروس طب الأطفال صادفت شخصيات من أساتذتي أسرتني شخصياتهم العلمية والأخلاقية والثقافية، ومنهم البروفيسور صلاح طه – رحمه الله – رئيس قسم الأطفال في ذلك الوقت، فهو ذو شخصية شاملة وثقافة موسوعية، ملماً علمياً وأدبياً وسياسياً، إلى جانب شخصيته الأبوية المرحة. والبروفيسور زين العابدين كرار، بشخصيته الجادة القاطعة، وعبقريته العلمية. والبروفيسور محمد أحمد عبد الله بعلمه الموسوعي وإنسانيته الآسرة وتواضعه الجم، هؤلاء كان لهم فضل كبير في توجهي للتخصص في طب الأطفال، أما تخصصي الدقيق فقد كان الفضل الأول في توجهي له تتلمذي على يد بروفيسور خالد الحق مؤسس وحدة العناية المركزة بمستشفى الملك خالد الجامعي.
تفتحت ذائقتي الشعرية
* ما الدور الذي لعبه والدك الشاعر الكبير محمد سعيد الجشي – رحمه الله- في إرساء دعائم الثقافة والأدب في دواخل النفس؟
– كان والدي – رحمه الله- من ناشطي الحركة الأدبية في مدينة القطيف، وكان متابعاً للحركة الأدبية في الوطن العربي، خصوصاً في مصر والعراق ولبنان، ونشر في مجلة الأديب. وإلى جانب شاعريته، كان يمتاز بحسن الإلقاء، وتكاد لا تخلو مناسبة ثقافية أو دينية من إلقائه في ذلك الزمن، حتى أن الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) نوهت في كتابها (أرض المعجزات) بقصيدته، وقصيدة خالي الأديب الشاعر عبد الله الجشي ذات الشهرة التي خولتها لأن تكون مادة دراسية في النصوص الأدبية لسنة ثالثة ثانوي لسنوات، والتي ألقيت في حفل الترحيب الذي أقامه لها أدباء القطيف عند زيارتها للمنطقة الشرقية ضمن زيارة لوفد من أساتذة جامعة القاهرة للمملكة في خمسينيات القرن المنصرم، والتي يقول فيها:
هذي بلادي وهي ماض عامر
مجدا وآت بالمشيئة أعمر
استشرافاً مبكراً لنهضة الوطن..
في هذا الجو الأدبي تفتحت ذائقتي الشعرية، ومن رفوف كتبهما ومجلاتهما كنت ألتهم المعرفة. كانت مجلة العربي الكويتية حاضرة بانتظام، ونحن نقرأ العربي الصغير، وترديد قصائد الشعراء جعل حضورهم طبيعياً في قراءاتي كانا نهمين لاقتناء الكتب، وقد أورثاني هذا النهم.
لذلك نشأت في وسط شعري، فوالدي شاعر، وخالي شاعر، وجدي لأمي شاعر، كما أن مكتبة جدي لوالدي تعد من أشهر المكتبات الخاصة، وحيثما وليت وجهي تصافح الكتب عيناي. لقد تولى خالي مهمة التأسيس للقراءة، حيث يزودنا وإخوتي وأخواتي بقصص الأطفال المصورة والمبهرة، حتى أصبحت القراءة عادة لدينا، فمكتبة خالي كانت تحتوي على كتيبات دورية أحدها اسمه (كتابي) كان يصدر من مصر كما أظن، ومحتوياته شكلت وعيي الأول بالأدب، حيث يحتوي كل عدد على ملخص لعدد من الكتب والروايات العالمية، وصور لأهم المعالم التاريخية والحضارية، وكنت أعشق قراءته، وقد شكل نواة البداية لقراءة النصوص الأدبية الكاملة لاحقاً.
في المرحلة الابتدائية التفت خالي لميولي الشعرية من خلال المسابقات الشعرية التي نمارسها في البيت، وأعد لي برنامجاً صارماً لحفظ الشعر مبتدئاً بالعصر الجاهلي حتى العصر الحديث، واستمر لثلاث عطل صيفية كان يكتب القصائد ويشرح معانيها وكلماتها ويُسمعها لي أسبوعياً، ثم أطلق العنان لخياراتي الشخصية، بهذا أصبح الكتاب صديقي اللدود الذي لا أستغني عنه حتى الآن. علاقتي بالحرف قراءة وكتابة تأثرت مداً وجزراً بمساري العلمي التخصصي، ولكني لم أنقطع عنها، والآن يزداد الشغف بها.
كان المجتمع متكافلاً بتلقائية
* تخصصكِ الطبي الدقيق في طب الأطفال حديثي الولادة، لم يمنعكِ من خدمة مجتمعك، ومتابعة حركة الفكر والأدب فيه.. ما المحفز لذلك؟
– علاقتي بالنشاط الاجتماعي، علاقة ممارسة تلقائية في سياق الأسرة، فوالدتي لها حضورها الاجتماعي، وتميزت بقوة الشخصية والتواضع الجم، وهذا حال معظم نساء الأسرة، وكان بيتنا ملتقى نساء وأطفال الحي (الفريق)، أبوابه مشرعة بأمان لطالبي السقيا طوال السنة، وفي الصيف يتحول إلى ملتقى للطالبات من الجيران والمعارف لدروس التقوية في بعض المواد التي كنا نقوم بها أنا وأخواتي، إذ كان المجتمع متكافلاً بتلقائية بعيداً عن التكلف والتشوف، وكانت معظم البيوت لها الصفة نفسها.
تأسيس قسم نسائي
* خدمتك لأبناء وبنات مجتمعك.. متى أخذت الطابع الرسمي؛ لتعم الفائدة على أكبر قدر ممكن، ولتكون أكثر قيمة وعطاء؟
– تجربة التدريس البيتي هي التي حملتني ومجموعة من الفتيات متفاوتي الأعمار إلى التوجه إلى مركز الخدمة الاجتماعية التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك؛ لتوظيف حماسنا واستعدادنا لخدمة المجتمع، وقد قوبل حماسنا بكل ترحاب من قبل فئات مختلفة من المجتمع، الذين اقترحوا علينا المطالبة بتأسيس قسم نسائي للجنة الأهلية بالقطيف، وتم الرفع بذلك وجاءت موافقة الوزارة، وكان أول فرع نسائي يتم تأسيسه في المملكه بهذا المسمى، وكنت أول رئيسة لهذه المجموعة في عمر مبكر. ورغم أننا توجهنا لاحقاً لإكمال تحصيلنا العلمي، إلا أننا كنا نحلق ونعود ونستأنف العمل بها، وعملنا بعدها لسنوات عديدة للسماح لنا بتأسيس جمعية نسائية حتى تم ذلك بتأسيس جمعية العطاء النسائية الخيرية بالقطيف عام 1429ه وطوال هذه السنوات كنا عضوات في الفرع النسائي لجمعية القطيف الخيرية، ومعظمنا ما زال يمارس العمل التطوعي في هذه المؤسسات الخيرية مع جيل البنات وربما الأحفاد.
* أفصحت دراسة علمية، بأن المملكة وباقي دول الخليج، تعد الأعلى في الأمراض الاستقلابية عند حديثي الولادة على مستوى دول العالم، نتيجة زواج الأقارب.. ما مدى صحة ذلك؟، وما تفسيركِ العلمي الدقيق لهذه الظاهرة؟
– الأمراض الاستقلابية ذات صفات متنحية وراثياً ويصعب اكتشاف المصابين بها قبل ظهور الأعراض المصاحبة، وغالباً عند ظهور أعراضها يكون المولود قد تعرض لتلفيات خطيرة في خلايا المخ، وتعطل في وظائف بعض الأعضاء الحيوية كالكبد والكلى، والوسيلة الوحيدة لتجنب آثارها هو الكشف المبكر والتدخل العلاجي. وتزداد الإصابة بها بين الأقارب، لذا نجدها أكثر شيوعاً في دول الخليج عن غيرها من الدول؛ لارتفاع نسبة زواج الأقارب.
الحد من زواج الأقارب
* ما مدى أهمية الفحص المبكر لحديثي الولادة؟، وما مدى فعاليته في الحد من الإعاقة؟
– تأسس البرنامج الوطني للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية عام 1426ه؛ للكشف عن 17 مرضاً بينها بعض أمراض الغدد الصماء، وأصبح يغطي أغلبية مستشفيات المملكة، ويخضع المواليد لهذا الفحص خلال ال 72 ساعة من العمر، حيث يتم التشخيص والتدخل العلاجي مبكراً؛ ما أدى إلى انخفاظ نسبة الإعاقة الحركية والعقلية ووفيات المواليد الناتجة عن هذه الأمراض، وكذلك الحد من زواج الأقارب ذوي التاريخ العائلي لهذه الأمراض.
* ما السن المفضل لإجراء هذه البحوث؟، وما نسبة الشفاء المحتملة من هذه الأمراض، خصوصاً ما يتعلق منها بالنمو العقلي والبدني والوفاة المبكرة.. لا سمح الله؟
– طب حديثي الولادة طب حديث نسبياً، ولكن التقدم في مجال البحوث والعلاج فيه يتسارع، حتى أن نسبة الوفيات بين الأطفال الخدج تقل، وأصبح لدى المواليد في الشهر قبل السابع من العمر الرحمي فرص كبيرة للحياة، خاصة مع التقدم في مجال تقنية التنفس الصناعي ومنشطات وظائف الرئة والمناعة والتغذية والتقدم التقني في رفع كفاءة الأجهزة المستخدمة؛ لحماية الدماغ وحاسة السمع والبصر.
تبادل الخبرات وتطوير الأداء
* على صعيد طرح المستجدات العلمية، وتبادل الخبرات الخاصّة بطب الأطفال حديثي الولادة داخل المملكة وخارجها.. أين وصلنا في هذا الجانب؟، وهل قامت الهيئة السعودية للتخصّصات الصحية بدورها كما يجب؟
– في المملكة وحدات عناية رفيعة المستوى، يديرها أطباء سعوديون بكفاءة عالية، وأصبحت برامج التدريب في هذا التخصص عالية الأداء، تستقطب أطباء من الدول الخليجية والعربية والوافدين من الدول الأخرى، وتقوم الجمعية السعودية لطب المواليد بدور مهم في تحديث الممارسات الطبية في هذا المجال، كإصدار الأدلة الإجرائية، وعقد المؤتمرات السنوية؛ لمواكبة مستجداته. ويحرص الأطباء على حضور المؤتمرات العالمية في كل الدول؛ لتبادل الخبرات، وتطوير الأداء. وتتولى الهيئة السعودية للتخصصات الطبية الإشراف على تقييم مراكز التدريب، ومدى كفاءتها، وتقييم وامتحان المتدربين، وكذلك تصنيفهم المهني، إلا أن الكثير من الأطباء يعانون من بطء إجراءات تجديد رخص الممارسة، وقد عانيت منها شخصياً، وأعتقد أنه لا بد للهيئة من تقديم تسهيلات أخرى للممارسين، خصوصاً أنها تتقاضى رسوماً مالية ليست بالقليلة.
* باعتباركِ عضوة بلجنة حقوق الإنسان والهيئات الرقابية بمجلس الشورى.. كيف ترين الدور الذي تضطلع به هيئة حقوق الإنسان في الدفاع عن المملكة في المحافل الدولية؟
– كنت عضوة بلجنة حقوق الإنسان في السنتين الماضيتين، وأنا الآن عضوة في اللجنة الصحية. تقوم هيئة حقوق الإنسان بعملها في المحافل الدولية، وفق ضوابط تفرضها المؤسسات الحقوقية الدولية، كما أن التقارير تخضع لمعايير وشروط محددة، تتطلب كتابتها مهارات معينة، ولطريقة الطرح أهمية كبرى في إيصال المعلومة، والملاحظ أن الهيئة تعمل بجد على تطوير هذه المهارات لدى منسوبيها، بالتعاون مع المؤسسات الحقوقية الدولية المعنية بهذا المجال؛ لتدريب وتطوير مهارات منسوبيها ومنسوبي الجهات الحكومية المتعاونة معها، ويلاحظ تطوراً كبيراً في هذا المجال في المحافل الدولية، وأعتقد أن هناك قصوراً إعلامياً في إيضاح وجهات نظر المملكة، وإبراز دورها الإغاثي والإنساني على المستوى العالمي، ولا بد أن يكون هناك إعلام محترفاً يتولى هذه المهمة، خصوصاً في الدول ذات المواقف السلبية تجاه المملكة.
المعاهدات الدولية
* ما رأيكِ بما وجه لهذه الهيئة من انتقادات لاذعة من قبل بعض أعضاء مجلس الشورى، بداعي ضعف دورها في هذا الجانب، خصوصاً فيما يتعلق بتجني صحف عالمية ومنظمات دولية وحقوقية، وتقديمها معلومات مغلوطة عن المملكة، سواء في ما يتعلق بحقوق المرأة أو حرب اليمن أو حرية الرأي؟
– ارتباط الدول بالتوقيع على المعاهدات الدولية وصكوكها، يلزمها بتنفيذ ما ورد فيها، إلا أن تحفظها على بعض البنود يعفيها من هذا الالتزام، والمملكة واضحة في تحفظها على بعض البنود الواردة في بعض المعاهدات الدولية كتحفظها على البند ال 16 والبند ال18 الواردين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ صدوره قبل 70 عاماً، لأنه يتعارض مع مضامين الدين الإسلامي، وأغلب الحكومات لا تعمل بهذا الإعلان، وذلك وفق ما تراه متوافقاً مع دينها وأعرافها وتقاليدها الاجتماعية، ولا بد أن نتوقع أن استهداف المملكة في هذا المجال، وتوجيه الانتقاد، سيستمر ويقوى بقوة ما تمتلكه من حضور دولي سياسي واقتصادي وقيادي. وهذا لا يعني بالطبع أن لا نكون جاهزين ومحتاطين لإيضاح وجهة نظرنا قانونياً وإنسانياً.
خصائص المجتمع
* هل أنتِ من المؤيدات فيما ذهب إليه بعض أعضاء مجلس الشورى، بضعف كوادر هيئة حقوق الإنسان التي يحمل 60 في المائة من موظفيها الشهادة الثانوية فقط؟، فضلاً عن أنها لا تتبنى نهجاً واضحاً في التعامل مع حالات حقوق الإنسان؟
– بعض المنظمات الدولية والحقوقية تقيم الدول بمعيارها هي، دون الالتفات لخصائص المجتمع الآخر وأعرافه، ناهيك عن تسييس المواقف. ومع الانفتاح الذي تعيشه المملكة وفق رؤية 2030 لا نستبعد أن تجتر المسائل كالسابق.
* ألا ترين أن دور هذه الهيئة ما زال داخلياً ودون المستوى؟، وأنها غائبة تماماً على المستوى الدولي؟
– أنا أرى العكس. إن حضور هيئة حقوق الإنسان دولياً في تصاعد مستمر، وحضورها الداخلي رغم نشاطها الدؤوب، يجب أن يقوى، خصوصاً في المهام المتعلقة بمراجعة الأنظمة القائمة، واقتراح تعديلها.
* هل ترين سبباً مقنعاً لعدم وجود معايير واضحة تحدد ماهية انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة، في تعاملها مع مختلف القضايا وفق تأويلات شخصية واجتهادات عامة؟
– الإنصاف للحقوق يقابله معيار محدد وحاسم هو القضاء، لذا لا بد من وجود مدونة قضائية مرجعية؛ لتحقيق العدالة، وتجاوز الاجتهادات والتأويلات الشخصية والتي في حد ذاتها قد تكون ذات مضامين نبيلة، ولكن تطبيقها قد لا يحقق المنشود، ونأمل في اكتمال مشروع الملك عبدالله – رحمه الله-، حتى يتحقق التطوير في هذا الجانب.
* أليس من الضروري إصدار مؤشرات سنوية لمستوى الأداء في ضوء معايير حقوق الإنسان في المملكة؟
– مؤشرات مستوى الأداء مطلب ينبغي أن يتحقق على نطاق كل المؤسسات الحكومية بتنوع خدماتها، ومجلس الشورى دأب في توصياته على المطالبة بتطبيقها باستمرار.
نصف المجتمع
* بصفتكِ عضوة في مجلس الشورى.. ما الذي أضفته وأضافته المرأة للمجلس ولواقع مجتمعنا؟
– دخول المرأة لمجلس الشورى هو تكامل طبيعي لمؤسسة صنع القرار، فهي تشكل نصف المجتمع السكاني إحصائياً، ولها من النضج العلمي والمهني والفكري ما يؤهلها للقيام بهذا الدور، وتقديم رأيها في الأمور بوجهة نظر وتجربة مختلفة في بعض القضايا، فتح آفاقاً لحلول كثيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة والأسرة، وقد تقدمت الكثير من الزميلات بتوصيات مهمة، وناقشن بجرأة، ونافحن عن وجهة نظرهن بإصرار.
* هل أنتِ من المؤيدين بتخصيص المرأة العضو بمجلس الشورى في القضايا التي تعنى بالنساء؟
– المرأة السعودية تستعيد الكثير من الحقوق بتسارع زمني، والقرارات الملكية المتلاحقة في هذا العهد الميمون، كلها لصالحها.
ورؤية 2030
تهدف إلى رفع نسبة مشاركة المرأة
* (عمل المرأة) من القضايا التي لا تزال في حاجة إلى تطوير، كتوفير ظروف أفضل في بيئة العمل.. من خلال عضويتكِ بمجلس الشورى.. كيف تنظرين لذلك؟
– (عمل المرأة) بالفعل يحتاج إلى تطوير، فهو السياق الطبيعي لكل ما استثمرته الدولة فيها من علم ورعاية صحية واجتماعية، وهو وجه من وجوه وطنيتها. ورؤية 2030 تهدف إلى رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل من 22 % إلى 30 %، وهذا يعني خلق فرص وظيفية جديدة. ولا شك أن القفزة التي نعيشها مع هذه الرؤية، شرعت الأبواب للمرأة السعودية، ووضعتها أمام خيارات جديدة ومتعددة، وتعمل الدولة في هذا السياق على تطوير البيئة الوظيفية، وإزالة ما يمكن من عقبات، ولعل سياقة المرأة ومشاريع المواصلات العامة، وفتح دور الحضانة، والاهتمام بالتدريب والتأهيل، جزء من هذا التوجه.
* هل المرأة السعودية مهيأة لأن تأخذ ذات القدر من الحرية الذي منح لقريناتها في الدول الخليجية؟، وما مدى تقبل المجتمع لهذه الحرية؟
– المرأة السعودية جديرة وقديرة ومنجزة حتى في الظروف غير المؤاتية، فما بالك إذا أعطيت الفرصة، وهي لا تقل كفاءة وثقة عن نظيراتها في أي مكان.
أعتز بكل الأماكن والوجوه
* ختاماً.. ما أكثر ما تعتزين به؟
– أعتز بكل الأماكن والوجوه والأحداث التي ساهمت في صنع مسيرتي الحياتية. انتمائي لهذا الوطن الرائع، وعائلتي وبيتي وعملي وصديقاتي وزملائي وكل إنسان وضعه القدر في طريقي قريباً أو صديقاً أو زميلاً أو مريضاً. أعتز بالشباب الذين كانوا يوماً ما تحت رعايتي، وأصبحت الآن في رعايتهم.