أثار الشاعر والأديب أحمد الماجد الجدل بين المهتمين، بعد أن نشر مقالًا بموقعه على قناة التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، قال فيه إن البعض يتخذ من الحداثة غربالًا يختبئ وراءه، متسربلًا بالغموض والإبهام العبثي، دون إنضاج المعنى بالرمز الكافي، أو حتى دون تبييت النية لفكرة، يقصدها النص.
وبيَّن “الماجد” أن المشكلة التي تعاني منها بعض النصوص الشعرية، لا قلة الدلالات، أو وحدة المعنى، بل انعدام الدلالات ومحاصرة الشيفرات، وقال: “نطالب النص بمعنى محتمل واحد، فلا نتوصل له ولو بعد إمعانات عديدة”.
وتساءل: “هل تضع الحداثة كل النصوص في خط مبهم مستقيم واحد، لتجعلها مترادفة المستوى ومتطابقة الجودة، فتعطيها الحصانة بشرط التعتيم والغموض، الذي يتبعه البعض في نسج النص الشعري؟”.
واستنكر: “ألا تشترط الحداثة اكتمال المعاني ونضوجها، وصولًا إلى النصوص الغنية بالمعاني المشتقة والمكتظة بالتقاطعات التصويرية!”.
وأضاف: أن بعض النصوص تتشظى لاحتمالات ذهنية شتى، يشعر معها القارئ بانتعاش الأفق، كأنه يقف على مفترق المجرات، التي تنتظر دورها للعبور إلى مخيلته.
وتابع: “وبعض النصوص تصادر القارئ من أقل بصيص، وأظن أنه ثمة مفاضلة ملحة في هذه المنطقة”، مؤكدًا أن التذرع بالحداثة لتأتي سلعة هروب واختباء عن المسؤولية الإبداعية الحقيقية، ليصبح النص صندوقًا مقفلاً أشبه باللغو المراهق والشخبطة العابثة.
وأشار إلى أن الغموض أحيانًا، قد لا يكون مجرد علامة على عمق الشاعر، فربما يطرأ بسبب إخفاق الشاعر من إتمام الصورة وإنضاج بعض ملامحها، فيأتي النص بولادة حمل كاذب.
وأوضح: “بمعنى توفر الفكرة في ذهن الشاعر وإخفاقه في صياغتها، فتنشأ منطقة مظلمة بين الذهن والورق”.
وقال: “إن الشاعر نفسه، يواجه صعوبة ترجمة أفكاره إلى جمل ومفردات، وأحيانًا لا يوفق للوصول للنضج الكافي، لقطف النص وجعله موافقًا لما أراد إيصاله، وكأنه يفقد التحكم بمقود اللغة”.
وأضاف: “إذا كان الغموض التام “ثيرمومتر الحداثة”، فباستطاعتي أن أعجن الغموض إلى أقصاه، ملتزمًا بخلق التراكيب الجديدة، على أن تقود القارئ لحائط من الكلمات لا يتجاوز نفسه إلى نافذة واحدة”.
ولفت إلى أنه بإمكان الشاعر المتمتع بفكرته، أن يقلل نسبة التظليل إلى نصف غموض ونصف احتمال ونصف دلالة، ليخرج بنص يشاركه القارئ اكتشافه شيفراته.
واستفسر “الماجد”: “هل يجمل بالنص أن يكون صندوقًا محكمًا، وهل يتموضع الإبداع حقًا بين الأسود والأبيض، بين التظليل القاتم وبين الوضوح الممل؟”، مجيبًا: “أعتقد أن هذا التقسيم تهويل كبير وتجنٍ على منطقة الوسط، التي يتجنس بجوازها الفني شعراء، تفتخر بهم الحداثة وتسبح بحمدهم”.
وتابع: “إن الإرهاب الفكري، الذي يصب شتى مساوئ المباشرة الفنية -حد النظم- على من يؤاخذ النص الممنوع من الدلالة، يعد مغالطة كبرى، واستجهالًا”، مشيرًا إلى أن ذلك هروب من صلب الموضوع خلف متاريس وهمية.
في حين ذكر الشاعر البحريني أبو محمد البحراني، أن الحداثة عند البعض من الشعراء، أصبحت أشبه ما تكون بكونها “طاقية الإخفاء”، يلبسها الشاعر ويختفي من أن يكون شاعرًا، قصيدة فصورة، رمزًا، ودلالات وتراكيب، ليصبح تمامًا الشاعر إسماعيل ياسين، أو فريد شوقي.
وعلق الشاعر فريد النمر، موضحًا أن الحداثة تجيء سيرة حياة، لأنها سلوك وأدب، أسلوب ومجتمع وتاريخ ورؤية، وفي أنها شعر، تمثل أعمال التقانات، الأدوات الشعرية الإبداعية، لخلق فضاء شعري جديد، يرفض المكرر والتقرير منه.
وقال “النمر” إنه ليس الغموض والإبهام له علاقة بالحداثة، بقدر ما هو إعمال الفكر في البحث والتحليل عن فضاءات النص الإبداعية وتقاناته اللغوية، بحلتها المبتكرة، لا المكررة.
وقال الشاعر والناقد البحريني كريم رضي: “أعتقد أننا يجب أن نعترف أولًا بأن الحق في ألا تكون مفهومًا، هو جزء من حقوق الإنسان، فمن حق الإنسان أن يقول ما لا يُفهم، وليس واجبًا أصلًا على الإنسان أن يقول ما يُفهم”.
وتساءل “رضي”: “لماذا هذه المصادرة على الغموض وعلى حق الإنسان في أن يكون غامضًا؟”، كما تساءل: “تتحدثون عن الغموض لأنكم تنطلقون من أن الوضوح هو الأصل، لكن هل هو فعلًا كذلك، أم أننا نوهم أنفسنا بأسطورة أن كل شيء كان سهلًا وواضحًا “لين ما جاءتنا الحداثة وخربت كل شيء”، هل الأمر فعلًا كذلك؟”.
وأضاف: “هل كنا نعيش فعلا جنة الوضوح قبل أن تأتينا الحداثة؟ هل كان المتنبي أو أبو العلاء مفهومين للجميع فجاءت الحداثة وعقدت الفهم؟”.
من جهته، قال الشاعر السيد رضوان النمر: “إذا كان التذرع بأن الغموض جزء أصيل من لغة الفن، وهي تختلف بطبيعتها عن اللغة العامة، بأنها ـ أي “اللغة الفنية” ـ تعتمد الظلال والومض والمخاتلة في الألفاظ والغموض، فإنه لا يتفق، مع هذا الطرح، وأضاف: “ولكن الظلال والمخاتلة والومض، الذي يشف عن المعنى، ويسبغ عليه الجمال، والغموض، الذي يدفع عقل المتلقي إلى النشاط، والغوص في المعنى، والرحيل معه في عوالمه القصية”.
وذكر أنه كثيرًا ما يخلط البعض بين مفهوم الغموض ومفهوم الإبهام، الذي يعني التجديف في الظلام الدامس، فلا تتخلله ومضة، تقود المتلقي إلى شيء، وتنقذه من هذا التيه، وشتان بين الغموض والإبهام.
ويرى السيد هشام الخباز، أن الخلل ليس في الحداثة كمفهوم، ولكن في التطبيق، وقال: “كثير ممن يسمون أنفسهم بالحداثيين، هم من يصادر المفهوم العام للحداثة، لصالح المفهوم الخاص للحداثيين”.