كل شيء برسم البيع!

هل يوجد في هذا المزاد العالمي الكبير ما هو خارج نطاق المتاجرة، أو منطق السوق، أم أن كل شيء أصبح برسم البيع؟

يبدو أن كل شيء قابل للمتاجرة من الجريمة والإرهاب إلى استثمار الأزمات والكوارث، إلى المتاجرة بالأعضاء البشرية، والتقاط الصور مع المرضى والجياع من أطفال العالم الثالث، ناهيك عن الخطب والكلام الفضفاض الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا، فهو مائدة دسمة من الكلام يصاب من يقتات عليه بالأنيميا. حتى الأعذار ـــ وهذه ليست نكتة ـــ وُجِد من يسوّقها على الانترنت، بعد أن اعتمد موقع تجاري صيني بيع أعذار مختلفة للناس!

وفي نزاع المصالح تتهاوى كثير من القيم الإنسانية التي بشر بها ودافع عنها المفكرون والفلاسفة حين تتعارض مع المصالح السياسية والاقتصادية التي يسعى أصحاب النفوذ السياسي والمالي إلى تحقيقها، حيث المال والسياسة ثنائي يخدم أحدهما الآخر، وبينهما قواسم مشتركة. مع ذلك، تظل السيطرة أولا وأخيرا للمال، وتبقى كفته هي الراجحة، فتصبح تلك القيم «عملات» لا تصلح للتداول. ويظل مكانها اللائق بها بطون الكتب. لكنها يمكن أن تُستدعى في بعض الحالات وبطريقة مراوغة، يستدعيها أصحاب النفوذ السياسي والمالي كأوراق ضغط ضد المعسكر المناوئ أو الأنظمة «المارقة» المتهمة بالانحراف عن جادة تلك القيم التي لا قيمة لها في حال توافق المصالح.

لم يعد (ماكيافيلّيو) هذا العصر بحاجة إلى تعاليم الفيلسوف الإيطالي ماكيافيلّي، فقد تفوقوا عليه. فهو وإن كان قد اقترح قطع الصلة بين السياسة والأخلاق إلا أنه قد أبقى على خيط خُلُقي رفيع، عندما قال «إن الغاية تبرر الوسيلة» وكان قصده «الغاية النبيلة» أو الخيّرة. فإذا كانت الغاية نبيلة وخيرة، جاز، حسب تقديره، تبرير الوسيلة، أيا كانت، للوصول إلى تحقيقها. كان أكثر شفافية ووضوحا من تلامذته، لكن سهمه قد طاش، لأن الوسائل ينبغي أن تماثل الغايات في نُبلِها وسموِّها. أما التلامذة الجدد فقد أسقطوا من حساباتهم نُبلَ الوسيلة والغاية معا.

أصبح السائد في امبراطورية الأرقام، كما يرى ريجيس دوبريه، هو نزاع المصالح، والتخبط في ما لا شكل له. والمال هو القوة المحركة في ذلك المزاد. وكان المال ذات يوم هو القوة المحركة لاكتشاف العالم الجديد. فلم يكن اكتشاف القارة الأمريكية في الأصل إلا مغامرة جريئة بحثا عن المال الذي نَمَا في حضن براغماتية أو نفعية تعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة.

لم يكن هدف منتقدي المادية التبشير بعالم مثالي. أو الدعوة إلى ارتداء خِرقة الزهد. وإنما الهدف الحد من ذلك السّعار الذي لا يبقي على أية قيمة إنسانية. وفي هذا وجهة نظر مختلفة حاول جيلبرت سينويه تصويرها على لسان بطل روايته (الرجل الذي كان ينظر إلى الليل). يقول بطل الرواية: «المال يذهب ويجيء، ويمكنك أن تجمعه، ويستمر على ما هو: كونه كومة من الرمل، والمرء لا يبني شيئا على الرمل. والأمر لا يتعلق بالسعادة، ولكن بعجز المال في مواجهة التعاسة والمرض والوحدة. إن أية ثروة لن تحوّل إنسانا إلى ما لا يمكن أن يكون عليه».

في كتابه (تاريخ ويوتوبيا) يعرض الكاتب الروماني سيوران لتلك الطبيعة التواقة إلى التسلط بأية وسيلة كانت، فيقول: «لا يتحقق لنا المجد إلا على حساب الآخرين، أولئك الذين كانوا يطمحون إليه أيضاً، بل لا شيء يتحقق لأحد، حتى الصيت، إلا مقابل ما لا يحصى من المظالم».

ولا تسأل في ذلك المزاد الكبير عن الضمير، لأن تعريفه في معاجم السماسرة هو «ذلك الشيء الصغير الصامت الذي يخبرك، أو يذكرك، بما يجب أن يفعله الآخرون» أي ليس بما يجب أن تفعله أنت. وذلك بخلاف القاعدة القائلة «إن الضمير الحي هو صوت الآخر فينا، وليس صوت الذات». غير أنه لا صوت يعلو في ذلك المزاد الكبير على صخب الباعة. كما لا توجد مساحة لذلك «الاستثناء» الذي يندرج تحت عنوان: «هي أشياء لا تشترى». فكل شيء برسم البيع.

اليوم


error: المحتوي محمي