علي (ع) صياغة الإنسان

استحضار الشخصيات التاريخية العظيمة في سيرتها و عطائها و عذب حكمها الرصينة هو مؤشر حضاري في آفاق الإنسانية الكاملة ، فهو ليس بارتداد تراجعي يتغنى بأمجاد تليدة اختفت ، و يقام عليها مجلس حزن و أسى على اختفائها ، بل هي ضخ منظومة القيم و المضامين العالية في منهجية بناء الشخصية المتزنة المتألقة ، إذ أنه من أهم النظريات التربوية العاملة على تظهير و تنمية القدرات المتنوعة في النفس البشرية هي تقديم الشخصيات الكمالية التي جسدت الخلق الرفيع و الاستقامة و البعد المعرفي في أعلى درجاته و مستوياته ، و ما ذلك إلا لرفد الإنسان بحقل متنوع في ثماره ما بين معرفي و اجتماعي و قيمي و عبادي نوراني ، يتنقل المرء ما بين أزهاره العبقة ليقتطف منها ما يزينه و يكسبه الرقي القيمي.

تلك الهمة العالية و الإرادة القوية التي يلج بها المرء غمار الحياة بصعوباتها و مساراتها المتموجة و دروبها الديجورية ( المظلمة ) و صفحاتها المتخبطة ما بين أفكار أهوائية ، لا يمكن ادعاء سهولة الحصول عليها و إنتاجها لبعد فكري متزن حصيف و منهجية سلوكية تعتمد الاستقامة و التنزه عن العيوب و مواطن الزلل.

بل عماد الانطلاقة الإنسانية في الإمساك بزمام النفس و تطويعها نحو نور التكامل و التنمية ، هو ما يحتاجه المرء ليكتسي بحلل الرفعة و السمو في ميدان الكلمة و الموقف و التعامل ، فيتحمل مسئولية خطاه و ما ينجم عنها و يترتب عليها فيرقبها بعين بصيرة و متأنية و بحث معمق ، ينسج فيه خيوط الوعي و الطموح و بارقة الأمل التي تمتطي البعد الزمني كمراحل إنجاز و تخطي المراحل المتتابعة ، محافظا على تلك المكتسبات و العطايا و مراكما لها ، و حذرا من عثرات تصدف طريقه نحو الصراط المستقيم و تمنعه من التكامل المعرفي و الأخلاقي ، هذه المنظومة السامية بالنفس نحو آفاق الألق و الرفعة الحقيقية ، يجد معالمها في شخصيات عظيمة عمرت هذه الدنيا بنورانية حكمهم و مواقفهم ، فإن التنظير و المفاهيم و الحقائق – و إن كانت تحوز على التسالم و القناعة بها – و لكنها لن تكتسب قيمتها و فاعلية نتائجها ما لم تبصر النور على أرض الواقع و تطبيقها كسلوكيات و اتجاهات لا يحيد عنها ، فمصداقية المرء لا تنشأ فقط من قناعاته و أفكاره النيرة و هناك من تصرفاته ما يغاير اتجاهها تماما ، و إنما هي وقائع و مواقف تدعم ما يحمله من تصورات و قناعات يحكم عليها الآخرون بما يرون من سيرته و علاقاته و كلماته الهادفة.

و هذه المنهجية التهذيبية للنفس تمانعها من الاتجاه نحو التكامل مجموعة من العوامل السلبية ، فالأهواء و الشهوات تضعف سلطنة العقل و الواعي ، و تتجه بالمرء نحو التصرفات الخاطئة و غير المسئولة و الطائشة ، و ترديه في متاهات لا مخرج منها و يحيق به المخاطر و النتائج الوخيمة بعد فقدان المكابح ، فزمام الأمر و ما يمنع النفس من التردي هو الرشد العقلي ، أما و وضع عقله على الرف و قادته النزوات فإنه سيجني الخيبة تلو الأخرى في غفلة من أمره.

إننا أمام قدوة حسنة يتأسى بها الإنسان فتنطلق همته العالية ، و المتآزرة مع وجدان يحب بل و يعشق مفردات حياة عظيم ما استنقصه أعداؤه الحاقدون في شيء من كمالاته و صفاته ، فكنوز حكمه و كلماته الرائعة لو تدبرتها العقول و بحثت في معانيها و دلالاتها ، لارتقت الإنسانية إلى أعلى درجات الوعي و الفهم العميق ، و انجابت عنها توافه الانشغالات و الأفكار الساذجة و السطحية و الانفعالية غير المسئولة.

و في سيرة أمير المؤمنين (ع) المعطاءة ما يثبت و يرسي مدرسة القيم و التعامل الحسن و الاستقامة السلوكية ، فمن قرأ و عاش بوجدانه و فكره مع سماحته و علمه و شجاعته و إنسانيته ، سيجد من الثمار ما يسمو به في سماء التكامل و نزاهة النفس عن المعايب و الخطايا .


error: المحتوي محمي