تُرادف كلمة «انسان طيب» في مجتمعنا كلمة «انسان غبي»، وعادة ما يلاقي هذا الصنف الكثير من الاذى الاجتماعي والوظيفي، فالطيب -حسب تقييم كثيرين- هو من ينبغي استغلال عفويته الدائمة لنشر الدعابة عليه واضحاك الجميع منه، في حين يعتبر الوجه المعاكس له هو الشخصية التي تبرز نفسها دائما بلسانها العالي وتقدمها في المحافل المختلفة وبديهتها التي تعبر من خلالها على قدرتها على التملص من الواجبات ورمي اعباءها على دائرتها المحيطة، عادة ما تتبوأ هذه الشريحة اعلى المناصب القيادية، السبب يمكن تبريره بالمثل العربي (الطيور على اشكالها تقع)، هذا يعني ان القائد يفضل نموذج (الاعلى صوتا والاكثر تجبرا) ليكون هو خليفته في القيادة، فيما يكون «الطيب» الاكثر مصداقية وجهدا وانضباطا اقل حظا في ذلك، اعادة صنع الضوابط والشروط التي تمنح صاحبها الحق في الادارة والقيادة هو اهم ما يمكن ان يكون سببا في الارتقاء بالمنظمات المختلفة، ويمكن جدا تتبع هؤلاء من خلال اعادة تقييم الموظفين، فالشريحة الاعلى صوتا والاكثر اعتدادا بنفسها والتي عادة ما تتصدر الحديث وتملك ذلك الصوت الجهور الذي يبرزها بشكل مميز ينبغي استبعادها ان لم يكن مع ذلك العلم والمهارة الكافيين في الادارة، اما الشريحة المختبئة تحت عباءة الصمت والادب البارع والصدق فيمكن جدا البحث من خلالها عن القائد، هذه الشريحة لم تكن لعقود مضت ذات قيمة الا ما ندر، وهذا تماما ما ادعي انه تسبب في كل عناوين الفساد، فالمحاباة والشللية والقبلية وتوزيع المناصب على المقربين لم تكن لولا ان اختيار القائد الاداري في اول الامر كان خاطئا.
الاستثمار في الصامتين الاقل غوغائية والاكثر علما وادبا وامانة والبحث عن القائد الاداري بينهم هو كما اراه احد اهم طرق الارتقاء بالمنظمات المختلفة، القصة اليابانية الظريفة حول القائد يمكن ان تكون درس مهم لنا جميعا، تبدأ القصة حينما قال ياباني لعربي: اننا لسنا اذكى منكم، ولكن حينما يكون لدينا تسعة اغبياء وذكي فاننا ببساطة نجعله عليهم قائدا، فيما انتم العرب حينما يكون لديكم تسعة عباقرة وغبي فانكم تجعلوه قائدا لهم، هذه القصة تجعلنا اكثر ادراكا ان لا ثمة مشكلة حقيقية تواجهها اي منظمة الا في وجود الاداري الذي لا يملك اهلية الادارة، حينذاك ستبدو نظرته للوادعين المخلصين في عملهم على انهم سذج وبسطاء وينبغي دائما ان نتعامل معهم مثلما نتعامل مع السجاد الفاخر الذي يزداد جمالا كلما وضعنا اقدامنا عليه، اما اولئك الثرثارين المنهمكين في منح القائد الاداري اعلى درجات الثناء والعبودية فان حظوظهم كثيرا ما ستكون عالية في وصولهم لاعلى المراتب.
الطيب، كما يسميه الناس هو معيار حقيقي لتقييم المجتمع، فحينما يتعامل الناس بشتى درجاتهم معه على انه الانسان الساذج الذي ينبغي دائما استغلال ادبه وعفويته للاستهزاء منه والحط من قدره فانهم في حقيقة الامر يعبرون اكثر ما يعبرون عن تخلفهم وتدني مستوياتهم الاخلاقية والثقافية، في حين تبدو الشريحة التي تجيد فهم هؤلاء على حقيقتهم ومنحهم القدر الذي يناسب درجاتهم العلمية والقيادية هم الاكثر قدرة على بناء منظمات ادارية ناجحة بعيدة عن المحاباة والشللية والعصابات المنظمة، ما نحتاج اليه كمجتمع هو ان نكون اكثر اعتقادا ان الانسان انما يعلوا باخلاقه وادبه وعلمه، اما دونهم جميعا فان لسانه الجهور، وثرثرته الدائمة لن تكون سببا في علو شأنه الا مع من هم شاكلته، وأحسن شوقي كثيرا حين قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا