كان لقاءً يشبه الطرق على باب الذاكرة، ومحاولة استدعاء صورها.. لا بل كان أكثر من ذلك، إنها رحلة في تاريخ غابت شخوصه عنا، وتلاشت أمكنته، حتى أنها ماعادت أطلالاً تسلي العين والفؤاد معاً.
إنها جولة قصيرة في ساعاتها، ممتدة إلى قرابة نصف القرن في ذاتها، فكل ما رأيناه كان تاريخاً سردته ألسن الآباء والأجداد، إلا أن الكلام ليس كالرؤية مطلقاً.
في صفحات ألبوماته ستستنشق عطر النخيل، وستدهش من روعة “مياه العيون”، ستقرأ قصص العادات والتقاليد، وستتلمس جدران بيوت الطين، وستتفاجأ بعودة الأموات أحياءً في انعكاسات تلك الصور.
يمكنك في وقتٍ مختصر أن ترى القطيف قديماً، أن تعرف كيف كانت تعيش بناسها، سوف تكتشف أماكن كنت تظنها تسكن كتب التاريخ القديم، وحين تتمعن أكثر ستجد قرية “الجش” كحكاية مختصرة فيما تسرده صور وفيديوات “طاهر العلي” أو كما يعرفه الغالبية بكنيته” أبو جمال”.
«القطيف اليوم» كان لها جولة في خبايا ذلك الإنسان “التاريخ”، المصور الذي عشق الكاميرا منذ عام 1392 هـ وحتى يومنا هذا.
من هو؟
طاهر حسن العلي، أحد أبناء قرية الجش، من مواليد 1370 هـ، معلم متقاعد، عشق الكاميرا، فعشقته، وأصبحت لصيقة يديه لأكثر من 40 عاماً.
بداية العشق هدية.. وحكايات أخرى لمعشوقاته!
قد تقودك الصدفة ناحية عشقك دون علمٍ منك، ولربما هذا ما حدث مع العلي، فقد امتلك أول كاميرا كهدية من أخيه الأكبر إبراهيم العلي في عام 1972 م، وكانت من نوع كوداك، ومنذ ذلك التاريخ بدأت رحلة أحد المصورين القدامى في قرية الجش، فقد بدأ “أبو جمال” في جولاته وصولاته الفتوغرافية، راصداً لوجوهٍ وحكايات وأماكن عدة.
ولأن شغفه بدأ يكبر، فقد اختار أن تكون الصورة حيةً تتحرك أمامه، فما كان منه إلا أن اشترى كاميرا سينمائية من نوع مونيلتا، يقول:” اشتريت الكاميرا السينمائية عام 1977م، وكان ثمنها 2800 ريال، وهو لم يكن مبلغاً عادياً في ذلك الوقت، سيما وأن الراتب للمعلم لم يكن كما هو الآن، حيث كان أتقاضى حينها 1700 ريال فقط، أي أني اشتريتها بما يعادل راتب ونصف، كما أنها كانت تحتاج لعشرة أفلام يتم دمجهم ببعضهم لنخرج بفيديو مدته نصف ساعة فقط، فكل فيلم مدته ثلاث دقائق ونصف وسعره قرابة الـ50 ريالاً، وهو الأمر الذي كان يكلفني جزءاً كبيراً من راتبي، لفيلم سينمائي واحد”!
ومع هذا فإن الشغف لم يتوقف بل ازداد، بامتلاكه لأنواعٍ مختلفة من الكاميرات، غير أنه حين قرر أن يجرب التصوير بكاميرا الفيديو -وهي كاميرا مختلفة عن الكاميرا السينمائية- استخدمها أول مرة استعارةً من أحد أصدقائه المهوسين بشغفه الفوتوغرافي أيضاً، وعلل عدم شرائه لكاميرا الفيديو في بداية ظهورها لارتفاع سعرها.
يرى النور..
العلي لم يكن أول من وثق تفاصيل الجش، ولا آخرهم، ثمة العديد من الشخصيات التي سبقته في ذلك، وكانت قدوته فيه، إلا أن ما يميزه أنه يشارك مجتمعه بأغلب نتاجه، لذلك نال اسمه حيزاً من أغلب بيوتها، فهو يهوى مشاركة التقاطاته بأنواعها مع الجميع، وقد بدأ بذلك في عام 1400 هـ، حيث عرض أول شريط سينمائي أنتجه قبل ثلاث سنوات من تاريخ عرضه، في قاعة نادي الهداية بالجش، وهو الأمر الذي أمتع المشاهدين حسب تعبيره، وهم يرحلون مع لقطاتٍ نادرة، ووجوهٍ عدة، وقصص لحياة القرية، وبعدها وجهت له عدة دعوات لتصوير احتفالات الزواج، وإجراء مقابلات مع بعض المزارعين وغيرهم.
مساندون وقدوة..
يرجع “أبو جمال” الفضل الأول لامتلاكه هذا الكنز إلى أخيه الأكبر إبراهيم، والذي سانده مادياً ومعنوياً، للاستمرار في هذه الهواية، ثم صديقه أحمد الزاير “أبو صلاح”، وهو مايسميه بالمساعد الأيمن في هوايته، أما عمن تأثر بهم في هذا المجال فهما المرحوم منصور سنبل “أبو باسل”، والمرحوم علي الزاير “أبو فريد”.
حكايا صور..
استطاع “أبو جمال” خلال رحلته مع معشوقته أن يجمع تاريخاً غنياً بذكريات قد تعني الكثير للبعض، وإن كانت تمر مروراً عابراً عند القلة، ولكنك حين تسأل عن أقرب جزءٍ له من ذلك التاريخ يجيبك دون تردد :”صورة والدتي رحمها الله وهي تسف حصير الخوص، كلما داهمني الشوق نظرت إليها، بل كلما شعرت بالضيق تأملت تفاصيلها”، أما عن أول صورة التقطها فقال:” يصعب تحديد ذلك، إلا أن لدي فيلم يحتوي عدة صور لطلابي في أوائل تاريخي الوظيفي في التدريس عام 1392 هـ، إلا أنني مازلت أحتفظ بأول صورة التقطها لي الراحل منصور سنبل وأنا في الثالثة عشرة من عمري”.
وعن أطرف المواقف التي صادفته في بدايته، يذكر بأنه كان يتعرض لمعارضة القلة من أهل القرية، يقول:” مازالت أحتفظ بمقطع قصير لأحد أبناء قريتي وهو المرحوم الحاج عيسى آل سلام والد المرحوم الحاج ملا حسن سلام، أثناء زواج حفيده منصور، وهو يمنع استخدام الكاميرات، وأنا أصوره قائلاً: صحيح لا أحد يصور!”.
وفيما يخص المنطقة التي حظيت بأكثر التقاطاته فهي منطقة زراعية كانت تسمى “برزه”، والبيوت القديمة المحيطة بالقرية.
وعلى الرغم من الكم الهائل الذي يمتلكه من الصور، إلا أنه يجد بأن بعض الوجوه القديمة من كبار السن قد فاته التقاطها.
مطر لكنه لم يكن.. !!
عام 1394 هـ، يهطل المطر بغزارة، ليبلل بيوت الطين، ويتخبئ أهلها تحاشياً لبلله، ولكن ليس كل ما اختبأ آمن.
يحكي أبو جمال بحسرة:” كنتُ أجمع حصيلتي الفوتوغرافية في عددٍ من الصناديق الكرتونية، وبعد أن هدأ المطر، شممتُ رائحة غريبة، تشبه رائحة الأشياء المحترقة، مددتُ يدي أتفحص “كنزي”، إلا أنني وبكل أسف لم أجد غير عجينة سوداء، علقت ألوانها بكفي، وكأن تلك الذكريات قررت أن تصافحني قبل وداعها بطريقتها الخاصة”، سمعنا تنهيدته التي أكمل بعدها:” لم أستطع أن أنقذ من مدخراتي غير مايقارب 1% من تلك الثروة، أصبت بالإحباط، فقد فقدتُ هوايتي القديمة في تلك الليلة، بعد أن كنتُ هاوياً لجمع الصور، غادرني كل ماجمعت بعد ليلة واحدة ماطرة”.
جانبٌ آخر..
“أبو جمال” بعيداً عن الكاميرا هو مجموعة من حكاياتٍ مختلفة، كان شاباً عشق الفن بصورةٍ أخرى، فقَبّل “الناي”، وصار عازفاً له بالموهبة فقط دون التعلم، وجمع عدداً كبيراً من آلاته، وصاحب عدداً من مقاطع الفيديو خاصته عزفٌ بنايه، أيضاً هو عاشق للسيارات ويهوى اقتناء موديلاتها المختلفة.
ممثلٌ شارك في بعض مقاطع الفيديو الاجتماعية والتربوية المنتجة محلياً، كما أنه متعلقٌ بالاتصالات اللاسلكية، ويملك محطةً مرخصة من هيئة الاتصالات اللاسلكية والطيف الترددي.
أخيراً.. حين تلامس حياة “طاهر العلي”، فإنك ستلامس تاريخ حقبةٍ زمنية ضمت الكثير من التحولات “الزمكانية”، فهو شخصٌ مشى بين نخيلات القطيف ومزارعها، وعاد اليوم ليتجول في تلك الأماكن بعد أن ودعت لونها الأخضر ولبست ثوب المدنية والتحضر، وقد تقول بأنه مثله كثيرون، إلا أن أولئك الكثيرين قلة منهم من وثق ذلك التاريخ، واحتفظ به عشقاً في قلبه قبل صور كاميرته، باختصار.. أنت حين تصافح أبي جمال ستصافح تاريخاً غادرناه دون أن يغادرنا.
«القطيف اليوم» تجري لقاءً مرئياً مع طاهر العلي، واحدٍ من الفوتوغرافيين القدامى، مهتم بتوثيق الحياة قديماً:
صور وفيديو: