نصف يوم كامل طوينا نهاره ردحاً بين آلاف المشاهدات من لوحات وصور ، حوارات ملونة هادئة وأخرى متباينة ، دارت واستدارت بيننا وبين من قابلناهم في أروقة المعارض حول نظم التكوين الفني ، وفلسفة التجديد وعدم اجترار المألوف والمستهلك من أمثال استنساخات ( الخط والزخرفة ) ، وأشباهها من الشكليات النمطية ، و(بورتريهات الكبي) الغارقة في التقليدية والتكرار الرتيب ، نقاشات جدلية حول أطروحات الفن المعاصر و إشكالات ما بعد الحداثة ، وصدمة الردة بعودة ( النيوكلاسيكية) بنهجها القديم وآخر مستحدث مطعم بعدة أساليب ومدارس الفن ، فنون تتقاطر وتتجاذب وتتنافر وتنسلخ من بعضها البعض ، وأخرى موجهة (ثوريا) من (أسياد البناليات والتريناليات) تبرز حيناً ثم تخفت أزمانا ، ثم يعاد ظهورها بتلميعات مغايرة وجلود مستعارة. ووسط صخب أمواج الفن وهدوئه هل نتكيف مع مده وجزره ومفاجآته؟ أم نتوائم مع مايرضينا وما لا يرضينا، لا حيرة في الفن ، قناعاتنا هي من تحدد مساراتنا ، وهي أيضا قابلة للتغيير بين وقت وآخر .
أسطح ( الكنفاس ) تسللت من تحت أرجلنا وحملتنا بخفة جناح ، وطارت بنا كبساط ريح على ضفاف محيط دلمون ، غفينا برهة ثم يممنا وجوهنا إلى ليل المحرق ، عبرنا الدروب الضيقة وعين ( حسن الجيراني ) تتبعنا كضوء قمر ، صوت الإيقاعات تتناهى إلى سمعنا ، ترشدنا إلى ( حالة بوماهر ) ، حط رحلنا وسط زقاق (دار جناع ) للفن الشعبي ، طبل وأكف ومراويس وصفقات ، أجساد تتمايل وأخرى تصدح بأشجان الأمس،
ردح وقفز في الهواء، رنين يدوي حماسة بجرة الصوت (أوه يامال يامال ..
أوه يايبا ..آه آه..) ترنيمة عشق للموج وآهة تعب بشوق وتذكرة عودة للأحباب ، حواسنا مسحورة بأجواء تراثيات ( الدق ) ، أغمضت عيني وتلبسني ( فن لفجري ) بتنويعاته ( البحري ، المخولفي ، الحدادي ) وكأن أسلافي يمرون من أمامي ذاهبون إلى غياهب البحر ، بوجوههم السمر ، تلفحهم ( شمس القيض ) ، تزفهم صراخ النسوة الخائفات من اللاعودة ، رجال وشبان بلعتهم مياه الخليج غوصاً ، وتناثرت عظامهم عند مصائد اللؤلؤ ، حكايات جدتي عن ( سنة الطبعة ) الفجائعية وأجواء مأساوية فلم ( بس يابحر ) وبكاء ( حياة الفهد ) على فقدها لولدها ، أغرقوني دمعاً وسط فرح الحضور ، داريته عمن جلس بقربي ، سحبت نفسي خطوات إلى وسط فضاء الدار والتقطت عيني قصاصة من جريدة الوطن البحرينية بعنوان ، (صرخة نهام ) للدكتورة (لولوة
بو دلامة) تشرح عبق هذا المكان الصادح بالأصالة المحمل بأنين الأولين ، وتصف قمة اندهاش ( محافظ المحرق ) حينما قابلته على وقع موسيقى هذا اللون من الغناء الشعبي في فناء هذه الدار ، و أفضى لها ( اسمعيهم بقلبك ، إنهم لا يغنون ، إنهم يتأوهون ألماً ، هكذا كان آباؤنا وأجدادنا يواجهون آلامهم وشوقهم وهم في عرض البحر ) ، أي قسوة أنشدتها النوارس و( أنين الصواري ) لحكايات الراحلين ابتلاعا في ظلمات البحر .
تتناهى لسمعنا نهمات الحاج ( سالم العلان ) من على ظهر السفينة تشحذ همة البحارة بمواويل تبدد وحشة الأيام حيث البعد عن الأهل والخلان، آهات من أعماق القلب يزفرها حنينا والتياعا بطوي غربة السفر (آه .. آه ..لي صليتوا على النبي لاتنسون أبا الفضايل علي ..آه..آه .. زوج البتول
أبا الحسنين نعم الولي.. آه آه .) كلمات تؤنس سامعيها وتستأنس حنجرة منشدها وتلامس قلوب عامرة بالوحدة لاتعرف للفرقة محلا، أخوة في لجة البحر تقاسموا قطرة الماء والملح والزاد ، فزعوا في المآتم والأعراس، وتصاهروا نسبا وأرحاما ،
(آه ..آه.. سلامي ياعزوتي..)
سلامي لكم ياأصحاب النخوات والفزعات والمروءات، ذكراكم تسبح على صفحات الماء، تعاتب الريح وتهجو زماننا المر .
وصلات شعبية تتوالى وسط انشداد الحضور ، خلالها رمقت عجوزا جالسا في الغرفة الشتوية لوحده دنوت منه و تبادلت معه أطراف الحديث وأعلمني بعضا من تاريخ دار جناع التي تصارع من أجل البقاء
بعد أن أقفلت الكثير من الدور أبوابها برحيل أصحابها وأبلغني بعض من رجالات الغوص المسافرين بطول وعرض الخليج ومعرجا بين خطوط الملاحة بين المحرق ودارين، أخذ نفسا وقال: (أنت من وين )؟ قلت له من القطيف وبالأخص من تاروت ، رد بتساؤل ملتفتا نحوي ( خبرني عن حمام تاروت ، بعد مايته قوية ، أذكر إذا بندرنا في دارين ، لازم نطب الحمام وننشد حمام تاروت عليه اليوم طيريني …)، قلت له ( الله يرحم حمام تاروت، يايبا دفنوه ولم يبقى منه أي أثر ) جر الآهات على زمن مضى !
ودعته ولم أفصح مادار في خلدي من حسرات . بحرارة
الأكف تعلو الصفقات وأصوات المنشدين تتماهى مع الإيقاعات ، أجسام تتمايل مع دندنةالشيلات ،
وصلات متنوعة وسط إعجاب الحضور، الفرقة أضناها السهر، أبطأت من تواصلها ثم توقفت أنغامها استئذانا للانصراف، وقبل تركنا الدار تسمرنا حول رجل طاعن في السن
بوجه الوقور يحمل سيماء بقايا زمن الطيبين، أنشد وهو يتعكز بأشواق الحنين أخذنا كخطفة شراع عبر أشعار وجده الجميلة ، أنفاسه خلجات بملح السنين وأشواقه متهجدة لأحبة لم ينقضي وطرهم كأنهم أحياء بين ظهرانينا يعيشون زمنهم مجددا ، قهقهات وقبلات على هامته الوقورة الشاهدة على عمق الوصال والوئام بين أطياف الناس الذين لا يفرقهم لا طائفة ولا مذهب، أناس كانوا أغلى من الذهب .
أطفئت فوانيس الدار وأرواحنا مشعة بإرث السمار ، حواسنا تعبر
(فرجان لول) تتلمس
ذا الجدار وتتأمل ذاك الباب،
وتطوف بجانب (بيت العود) وتقف عند أعتاب مجالس (اللمات والعتمات)، وتسأل هل هي عامرة بأهلها؟ ، أجاب الليل بهمس وعتاب ديار أغلبها قفراء مسكونة بالأغراب من بلاد الهتد والبنغال ! .
يتمثل أمامنا المجسم الرائع
للفنان المبدع
عباس الموسوي ، بعنوان
(تحية للألحان القديمة) تنبعث منه تسجيلات لمؤدين فن الصوت البحرينيين على مدى قرن من الزمان، (عمل تركيبي) معاصر تتكون بنيته من ثلاث قوائم تحمل كرة متوسطة الحجم معلقة من الأعلى، مرسوم عليها وجوه لمطربي هذا الفن العريق الذين أنشدوا القصائد الفصحى لشعراء العرب الأقدمين، أدوات الموسيقى التقليدية مع جهازي (البشتخته) والراديو القديم تتناثر بين القوائم المنتصبة تقوسا وبين محيط نصف كرة المرتمية أرضا وهي ترداد للمعلقة لتتوازن معها إيقاعيا، اللون الأزرق يكسو جميع مفاصل المجسم برمته وكأنه خارج من أعماق البحر زادته السماء حلكة عند ليلة مقمرة، حتى الكرات الصغيرات وهي كناية عن الدانات ذابت لونا مع الألحان في حضرة السهر ، عمل شارك به الموسوي في معرض البحرين السنوي الواحد والأربعين للفنون التشكيلية، حاز على اعجاب الحضور والمغرمين بنكهة الماضي ، وهو يعبر عن أصالة تراث تليد نابع من روح الشعب، وهو رد تحية لذائقة حناجر الأمس الذين تغنوا بفطرتهم النقية نحو الجمال والخير والمحبة، المجسم مشكل بخامات متعددة يمجد التراث الغير مادي للخليجيين، تمثل نغماته امتداد البحر ودفء القلوب الصافية .
إقتربنا من نهاية رحلتنا الفنية فألقينا مراسينا على ضفاف جزيرة أوال، ولملمنا بعضنا كأننا عائدون من سفنية عشق أبحرتنا فنونا من كل فن ، وطافت بنا عبر الأزمنة خلال يوم واحد من شتائنا الفائت ، استحضر قصدا لتجديد ذكراه الثمينة في نفوس خمسة فنانين يمثلون جماعة الفن التشكيلي بالقطيف ، وأيضا محاولة إجلاء الغبار عن الوجوه الكالحة التي تعيش زمن الاغتراب باسترجاع صور الأمس الناصعة البياض .
يوم واحد عشنا لحظاته الجميلة، لحظة بلحظة، لامسنا فيه الوجوه السمحة والنفوس الأجمل ، محطاتنا الرائعة وثقتها ( عين حسن الجيراني ) التي هي مرآة عيوننا مفتوحة باتساع.