بداية، وحتى لا أقع في فخاخ التعريفات والتوصيفات والمصطلحات، أجدني مضطراً لكتابة تعريف بسيط للتطرف، وهو الميل الشديد للعنف والتشدد والإقصاء، سواء بالقول أو بالفعل. والتطرف، كظاهرة كونية تنتشر وتتمدد بسرعة وكثافة، أشبعت كتابة وتنظيراً وتحليلاً ودراسة، لكنها مازالت عصية على التصديق والفهم والإدراك، فضلاً عن الاحتواء والسيطرة والحل.
وحتى لا استنزف المقال في الكتابة عن التعريفات والتوصيفات لظاهرة التطرف، سأتجه مباشرة لمقاربة المسببات والتداعيات. والتطرف الآن، بل منذ عقود، يُعتبر “منظومة صناعية”، يُعاني منها -بل يكتوي بنارها- كل العالم بلا استثناء. وصناعة التطرف، ظاهرة لها أدواتها وآلياتها ومقوماتها، تُدار وتوظّف وتوجَّه من قبل منظمات وجماعات أممية وأجهزة واستخبارات دولية، بل ومن كيانات ودوّل عالمية.
تلك الصناعة القذرة -صناعة التطرف- تحتاج إلى قناعات وقدرات وإمكانيات هائلة، تقع على عاتق ومسؤولية كل الدول والشعوب والمجتمعات والمنظمات والمؤسسات الدولية والمراكز البحثية، فالتطرف يكاد يفتك بكل العالم، وهو يتمدد ويتوسع ويتموضع في كل التفاصيل، بل ويُمارس التوحش والعربدة والتصفية.
وبعيداً عن تلك الصناعة العالمية للتطرف، كم نحن بحاجة ماسة لمكاشفة شفافة وواقعية وجريئة لهذه الظاهرة الخطيرة التي تُمثل حالة مجتمعية قد تجد لها خاصرة رخوة في جسد المجتمع فتخترقها وتنفذ منها. بعيداً عن كل ذلك: كيف يسقط الشباب الأبرياء في دائرة التطرف؟.
والتطرف عادة، يبدأ بسيطاً وخجولاً، لكنه سرعان ما يتغول كمارد يسحق كل من يقف أمامه. وقد تُقدح شرارة التطرف في أي مكان، في البيت والمدرسة والمسجد والشارع والإعلام. التطرف، ظاهرة عابرة لكل الأمكنة والأزمنة، وحالة قادرة على التشكل والمخاتلة. التطرف، قد يكون على شكل أمواج هادرة تُغرق كل شواطئ الأمان والاستقرار، وقد يكون رماداً ساكناً -كالخلايا النائمة- ينتظر هبوب الرياح ليحرق من جديد وجه الحياة.
ولكن، كيف يُصنع المتطرف؟. لا أعرف ولكن قد تكون هذه بعض الإجابة: حديث ضعيف مدسوس في كتاب مجهول قد يصنع متطرفاً، وفهم خاطئ لبعض مقاصد الشريعة السمحة قد يصنع متطرفاً، ومعلم متحمس يظن بأنه يذوذ عن حياض الإسلام قد يصنع طالباً متطرفاً، وخطبة حماسية تغص بقصص خرافية لداعية لا يعرف جوهر العقيدة قد تُجهّز متطرفاً، ومجتمع جاف بلا تفاصيل تُحرّض على حب الحياة قد يكون ساحة يترعرع فيها التطرف.
“صناعة التطرف”، هي الصناعة الخطيرة والمدمرة التي لابد من القضاء على خط إنتاجها الكريه، ولنعمل جميعاً على تثبيت خط إنتاج “صناعة الحياة”.
الرياض