جعفر تاجر الذهب … معايير مختلفة في معادلة الثروة والنجاح …

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ومعظم المساجد في جزيرة تاروت يوم الجمعة بالدعاء وقراءة الفاتحة لروح المرحوم الأخ العزيز الحاج جعفر الإحسائي ” رحمه الله تعالى” والذي اجاب نداء ربه يوم أمس الخميس ووري جثمانه الثرى في مقبرة تاروت بحضور ومشاركة جماهيرية حاشدة ..

كان لافتاً الحضور الجماهيري والمشاركة الواسعة في مراسيم التشييع امس ” بحسب الصور والمقاطع التي تم بثها” ومن المتوقع أن تشهد مجالس العزاء كذلك حضوراً ومواساة أوسع .

الفقيد السعيد ينتمي لأسرة أحسائية وكان والده المبرور ” ابو سعيد” ثالث ثلاثة من شخصيات أحسائية قدمت جزيرة تاروت لامتهان حرفتي الصياغة وصناعة المشالح ” البشوت” وورث الحاج جعفر من والده مهنة الصياغة التي برع فيها وطورها بتوفير مستلزمات هذه الصناعة المهمة التي كان يمارسها في محله بسوق تاروت ” مصاغات السلام”

ازدهرت سوق الصاغة في تاروت في مرحلة مبكرة جدا ويعود الفضل في ذلك الى شخصيتين احسائيتين هما الحاج محمد الحسين المعروف بـ ” المُلا” ابو حسين الذي ورثها كذلك لعدد من ابنائه هم حسين وأخويه ” من أم أحسائية ” انتقلوا الى مدينة ” صفوى” وعملوا في نفس المهنة ، وبقي عبد العظيم وَعَبَد الجليل وَعَبَد الصمد ” أمهم تاروتية ” حيث ورث الحاج عبد الجليل المهنة حتى وقتنا الحالي ومحله في سوق تاروت شاهدا على العصر الذهبي لتصنيع وتسويق المجوهرات في تاروت .

كما وَرِث أبناء الحاج احمد بن يوسف ال ابراهيم المعروف بأبي سعيد الاحسائي المهنة من والدهم ومن بينهم الفقيد الحاج جعفر ” رحمه الله” الذي آثر البقاء في تاروت وارتبط باهلها بعلاقات نسب ومصاهرة .

فيما انقرضت وتلاشت سوق صناعة المشالح “البشوت ” في تاروت بعد وفاة الحاج احمد الاحسائي، كان دكانه في مدخل الديرة “حاضرة الجزيرة” ولم تكن اسرته تقيم معه هنا ، ولا اعرف ان كان له اولادا قد ورثوا مهنته منه !

كانت الديرة تعج وقتها بحركة تجارية وحرفية ونشاط كبير، وكنا نشاهد تدفق الناس خصوصا النساء على دكاني المُلا وابي سعيد من مختلف مناطق تاروت خصوصا في مواسم الاعراس والمناسبات المختلفة لشراء الذهب والمجوهرات التي كانت تصاغ وتصلح لدى أشهر الصاغة في هذه الجزيرة العريقة .

يوم أمس ودعت الجزيرة شخصية تركت بصمات واضحة على تطور هذه السوق وازدهارها في موكب جنائزي مهيب ، تداعت له كل فعاليات المجتمع التاروتي بمختلف فئاته وشرائحه، وسط تساؤل حول سر هذا التكريم والحزن والدموع التي رافقت الموكب الجنائزي الاستثنائي ؟؟

بالطبع لم يكن بريق الذهب هو المحرك لكل هذا الزحف الجماهيري ولا الثراء المالي الذي يمتلكه الفقيد، فالمال لا يمكنه ان يصنع ذلك خصوصا بعد الموت !!

للموت رهبة ووجع وأحيانا يكون له وهجاً وحضوراً أوضح من الحياة واكثر بروزاً وظهوراً…

سر الموت الذي نجهله في كثير من الأحيان انه يهب الحياة الابدية لصاحبه، وأنه بوابة العبور للخلود، وأن ثمة أشخاص تحرر شهادة ميلادهم عندما يغادرون هذا العالم الفاني !!

علامات استفهام كثيرة ارتسمت على وجوه من حضر التشييع أمس تبحث عن أجابة مقنعة وواضحة … لماذا كل هذا الاحتشاد والحزن والدموع لموت ” صائغ” ؟؟

أحد المشيعين يسأل آخر : من هو جعفر الاحسائي حتى يحظى بكل هذا الحضور والحزن والرثاء، ومن الذي أتى بكل هؤلاء الى هنا ؟؟

يقول من حدثني : أجبت السائل بسؤال مماثل … أنت لماذا قدمت للمشاركة، ولماذا لا تزال هنا حتى الآن ؟

الحاج جعفر ” رحمه الله” لم يكن عالماً ولا خطيبا ولا كاتباً ولا أديبا وليس مثقفاً بالمعنى الحرفي التقليدي لهذه المفردات .. ولكنه كان إنساناً بمفهوم كلمة إنسان الواسعة المعنى والواضحة الدلالة والفضفاضة، المفردة التي تحتضن مجموعة قيم يتسالم عليها الكبير والصغير والعالم والمثقف وغير العالم والمثقف والرجل والمرأة على حد سواء .

جعفر … معلم للصدق والبذل والتسامح والأمانة والبساطة … الذهب والمجوهرات بالأصل سلعة الأغنياء والأثرياء ولكنه حاجه لكل الطبقات الاجتماعية … الفقراء يحتاجون الذهب في مناسباتهم المختلفة ويحرصون على اقتنائه .

تتزين به المرأة غنية كانت او فقيرة، كما تذخره رصيدا حين تعييها المذاهب وتضيق بها الحياة على سعتها وتضطرها الظروف القاهرة للتنازل عنه لفك أزمة تحل بزوجها وأسرتها ..

الحاج جعفر لم يكن التاجر الشره المستغل .. الذي ينتهز حاجة الناس ويستغل جهلهم بتقلبات السوق فيبيع في مواسم الغلا ويشتري في ايام الرخص !

كان الناصح الشفيق والمستشار المؤتمن يقدم النصائح الصادقة لزبائنه وخصوصا النساء وينهاهن عن البيع المجحف ويكف ايديهن عن الشراء المرهق عندما يرتفع سعر الذهب لأسباب غير واقعية !!

ربما يتعجب البعض ويتهمه بالسذاجة فالتاجر الذكي هو من يستثمر الفرص ليجني اكثر ويربح ويستغل جهل المتعاملين بتقلبات السوق فيأخذهم في دهاليزه المظلمة الى حيث يريد .. فالسوق لا يحمي المغفلين !!

اليست هذه مقومات التجارة وقواعد الكسب والثراء التي يروج لها ويمارسها الأذكياء بزعمهم ؟؟

جعفر … كان تاجرا ورعاً نزيهاً ولم يكن انتهازياً يحتكر السلعة ليجحف بزبائنه ويستغل حاجتهم للمال …

كان يقدم المال للكثير من زبائنه قرضا حسناً لحين تتحسن احوالهم ويعيدوه دون ان يلجئهم لبيع مالديهم .. كان سخياً كريماً ملك المال ولم يملكه المال … مصداقا للقول المأثور عن الامام علي ” عليه السلام” الزهد ليس ألا تملك شيء , بل ألا يملكك شيء!!

بمعنى لا تسمح للمال أو للشيء بحيازتك, لا تسمح له أن يكون سيدك ومالكك، بل كن أنت السيد و أنت الملك على نفسك و على مالك ..

أزعم ان الكثيرين من الناس العاديين البسطاء رجالاً ونساء يختزنون في ذاكرتهم الكثير من الذكريات لمواقف عاشوها مع الفقيد سوف تصحر عنها الايام وسنسمع الكثير من القصص التي ربما يراها البعض اشبه بالخرافات والخيال البعيد عن واقع عالم يضج باللهث وراء المال وبريق الذهب واكتناز الثروة وتضخيمها !!

صانع الذهب غير معادلة الموت فصنع من الذهب جسرا عبر به الى حياته الجديدة دون أن يفرط في ثروته ويهدر ماله … حمل معه بريق الذهب الى آخرته فعاش حميدا ومضى سعيدا، كتب بمواقفه وقناعاته التي عاشها سلوكاً يعجز القلم والكلمات عن بيانه ..

اعتقد أن بصيرته النافذة وتقوى الله ومحبته الناس فتحت له طريقا سلك به الرضوان، وأزال عنه الغشاوة ، علمه الله ما جهله ادعياء العلم والمعرفة … فالهمه منهج الأتقياء الورعين المتورعين، فوعى قول الامام الصادق ” عليه السلام ” إن الذين اعطوا المال ثم لم يشكروا لا مال لهم” ووعى ببصيرته قول امير البيان ” عليه السلام” : هلك خزان المال وهم أحياء !!

الطريق الى العلم وفهم الحياة وكسبها لا يكون بالتعلم فقط وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يحب !!

رحم الله جعفراً والهم فاقديه وذويه الصبر والعزاء وآجرنا الله جميعا في مصابنا به ” وإنا لله وإنا إليه راجعون ”


error: المحتوي محمي