الفرج: لم أكتب الشعر بغرض النشر.. وشعراؤنا بلغوا الفحولة الأدبية ولم يخدمهم الإعلام

هنا نبحر في دنياه، اليراع في لغته الشعرية، الشيخ علي الفرج شاعرًا، ما بين ألحان أمواجه الشعرية الدفء، سكونها في زرقة الماء، اقتفاء ولادة استجداء ما وراء القصيد، دهشة الكلمات الأولى، انتشاء شهوة الكلم في عناق المعنى، كصهوة الأخيلة حين تأتي موسيقاها الصمت تزاوج أحجار تربته، أحرفه التيه، اليقظة، سيمفونية من قريته القديح في محافظة القطيف، كانت صرخته الأولى لتعلن ولادته. لغته الشعرية لها طابعها الخاص تفرد بها، لتشعره الكلمات، الذبذبات الشعرية أنفاسه العبقات، كانجذاب الطفل لقطرات الماء.. الفرج ، جدولاً لأحلامه وأمنياته، تتراقص الأنهر شغفًا، لاحتضان ضفتيه.

أكد الشاعر الشيخ الفرج أن الشعر لغة، واللغة الإنسان، منوهًا إلى أن هنالك من شعراء المنطقة من بلغ مستوى أدبيًّا عاليًا، مستوى الفحولة في الشعر، ليس على مستوى المنطقة فقط، وإنما على مستوى العالم العربي بعامة.

وبين بأنه لا يوجد تسليط ضوء على نتاجهم الأدبي، ولا توجد قنوات إعلامية تُبرز مستواهم مقارنة ببقية الشعراء العرب الآخرين.

جاء ذلك في حوار أجرته معه «القطيف اليوم»، سعيًا في الغور بمجداف اللغة في حيثيات الشاعر الفرج.

س: عرفنا على بطاقتكم الشخصية والأدبية؟

ج: علي عبد الله الفرج من مواليد القديح سنة 1391ﻫ ، ارتبطت بالدرس الشرعي منذ سنة 1410ﻫ، في النجف الأشرف، رزقت بخمسة أبناء و بنت واحدة.

ومن المشاركات الأدبية التي شاركتُ فيها:

تكريم السيد مصطفى جمال الدين في قم، وتكريم السيد عبدالزهراء الخطيب في دمشق، و تأبين السيد عبدالعزيز الطباطبائي في قم و تأبين الشيخ عبدالحميد الخطي وتأبين الشيخ منصور البيات وشاركتُ في بعض الأمسيات الأدبية المحلية.

وقد شاركت في مسابقة أدبية على مستوى الجمهورية الإسلامية في إيران، أقيمت في مدينة يزد، إذ اشترك فيها أدباء من جميع اللغات المتحدّث بها في إيران، وقد فزتُ فيها بالمركز الأول على جميع اللغات المشاركة وناصفني الجائزة إيراني شارك باللغة الفارسية.

س: حدثنا عن الشيخ علي الفرج الشاعر، بعيدًا عن الألوان الأخرى في حياته؟

ج: لا أستطيع الفصل بين الجانب الأدبي في الشخصية وبين بقية المكوّنات العلمية والمعرفية، ذلك أن الشعر أعدّه رؤية وتعبيرًا عمّا أراه من ظواهر وما أختزنه من معارف، كوّنت شخصيتي العامة وبخاصّة ما اكتسبته من الدرس الشرعي، و بصورة أخصّ دراسة الفلسفة والمعارف العقلية. وفي التجربة الشعرية لا يمكن إغفال التأثر بقراءة الأدب العربي و الأدب المترجم إلى العربية، إذ يختزن الأديب ما يقرأه ويستذوقه من تلكم الآداب، و هو ما يسمى بظاهرة ” التناص “، فينعكس ذلك على أدبه فيما يبتكره من تراكيب لغوية جديدة، وصور فنية خاصّة به.

س: متى بدأت ممارسة الكتابة الشعرية، و ما أبرز ملامح تلك المرحلة من حياتك؟

ج: بدأ الشعر يلفظ نفسه للخارج وأنا في الثانية عشرة، وقد كان في الداخل وفي المخاض بدون تأريخ لأنني لا أتذكّره، وربما لا يوجد. كانت البدايات الشعرية مجرّد مساجلات بيني وبين الأصدقاء المقرّبين، إذ كنّا نتبادل القصائد فيما بيننا، ولم أكن أكتب الشعر بغرض النشر أو الإلقاء الجماهيري، وربما كان أقرب صديقين نتبادل القصائد فيما بيننا: سماحة الشيخ محمد آل قاسم والشاعر حبيب محمود.

س: ما تقييمك للمستوى الشعري في محافظة القطيف، خصوصًا ما يُعنى بالإصدارات في زاويتها الهشة، وعليه ألا تعتقد أنها – الإصدارات الهشة -، في محتواها تقلق الذوق العام وتخرجه من دائرة الإبداع، تباعًا إلى أثره السلبي على المنتج الأدبي؟

ج: هنالك من شعراء المنطقة من بلغ مستوى أدبيًّا عاليًا ” مستوى الفحولة في الشعر “. ليس على مستوى المنطقة فقط، و إنما على مستوى العالم العربي بعامة، ولكن – و هذا مما يؤسف عليه -، لا يوجد تسليط ضوء على نتاجهم الأدبي، ولا توجد قنوات إعلامية تُبرز مستواهم مقارنة ببقية الشعراء العرب الآخرين. وما يشهد لتقدّمهم حصول العديد منهم على جوائز أدبية عندما يشاركون في المسابقات الأدبية العربية. وفي مقابل ذلك، هناك مستوى من النتاج الشعري لا يرقى إلى الطموح، ولكننا عندما نطالع النتاج الأدبي على مستوى الساحة العربية، لا نجد المنطقة بدعًا من نظيراتها من المناطق العربية الأخرى، فكما تطالعنا دور النشر بالغثّ والسمين من الشعر القطيفي، كذلك هي الحال على مستوى الساحة العربية بصورة عامة.

س: ما رأيك في القصيدة النثرية، هل أخذت فسحتها في كتابات الشعراء في القطيف أم لازالت تراهق اهتمام الشعراء؟

ج: حضورها جيّد بين شعراء المنطقة، ولكن كان الأمل أن يكون الحضور على مستوى أوسع، وأكثر عمقًا ونضجًا في التجربة.
وعندما نطالع حضورها لدى بعض الشعراء، نجد نضجًا في التجربة وتكثيف في الإيحاءات وابتكار الصور الفنية، كما هي الحال مع تجربة الشاعر محمد الماجد في ديوانه “مسند الرمل “.

س: في كتابة القصيدة، لتولد من رحم اللحظ الأولى، هل ثمة انفتاح آفاقها أم ازدحامه الأفق، ماهية العلاقة الأولى بين الشاعر والقصيدة، أهناك لحظات لقاء، كظل عشب، لعاشقة ماء الكلمات، لتأتي خطواتها على مهل، كدف معناها أم اصطدام شعري، تجعله يبحر في أغوارها، لتهديه القبلات أحرفها؟

ج: قوام الشعر بالتراكيب اللغوية الجديدة والمبتكرة، ولذلك تحتاج القصيدة إلى ولادة أولى، ومن ثمّ إعادة هندستها لصياغتها لغويًّا وصولاً إلى التركيب اللغوي المبدَع . فـ ” الشعر لغة .. واللغة الإنسان “.

س: الدهشة الشعرية في القصيدة، ماذا تمثل لك وأين تشعر بها، لتهز وجدانك وفكرك؟

ج: أي شاعر أو أديب، يعتقد بأن ما يكتبه قريب من الإلهام الغيبي أو الميتافزيقي غير القابل للتفسير أو التحليل المحسوس، وغالبًا ما يمثّل هذا الإلهام إبداعًا لغويًّا لا يملك إمامه الشاعر إلا الانبهار والدهشة من القدرة على صياغة هذه التراكيب. وهنا يجب أن نفرّق بين قصيدة المناسبة وقصيدة الذات، فقصيدة المناسبة، هي القصيدة التي تدخل لها من الخارج، وقصيدة الذات، هي التي تخرج لها من الداخل. كما أن قصيدة المناسبة، هي التي تكتبها وقد تتحايل عليها لتكتبك، وقصيدة الذات، هي التي تكتبك وقد تتعثّر أحيانًا فتكتبها.

س: أين تكمن المسافة ما بين القصيدة، والتغيير الاجتماعي والثقافي والعاطفي، أتكون القصيدة، تحمل رسالة ما أم تأتي ذاتية، لتعبر عن المشاعر، استلطاف اللحظة الشعرية ومتعتها؟

ج: الشعر فن، والفن غير محدّد بهدف اجتماعي أو فكري أو أيديولوجي. إن الأدب يتعارض مع فكرة الإيصالية، فالدين أو أي معتقد، يحتاج إلى إيصال ما يدعو إليه من أفكار، وهذا ما قد يتعارض مع الأدب، حسب النظرة الحديثة. إذ يقاطع الأدبُ الإيصاليةَ المباشرة، ذلك أن فكرة الأدب تقوم على الجمالية والإيحائية. إن الإنسان كائن متأمل، والشعر وسيلة جمالية للتعبير عما يختزنه من صور وأفكار بصرف النظر عن الخلفية الفكرية أو الدينية التي ينتمي إليها. ولذلك، من الخطأ أن يحصر الشاعر نفسه في إطار ديني أو اجتماعي دون أن يفتح لنفسه آفاق التأمل في الكون و الحياة.

س: هل القصيدة الشعرية، تمثل تفريغًا، بكنه الشاعر، ليبدي استشراف خصوصياته للآخرين، ليشعر بالانتماء مع الآخر، بالتوأمة الاجتماعية، بكونه عنصرًا من عناصر تكوين المجتمع؟

ج: الشعر، كما سبقت الإشارة سابقًا، فن، وأينما ذهب الفن نجد للشعر حضورًا، فقد يكون التعبير عن المكنونات الشخصية جانبًا فنيًّا، فتظهر القصيدة الشعرية لتعبّر عن هذه المكنونات بصورة جمالية، وقد يكون التعبير عن المعاناة الاجتماعية العامة فنًّا، فيكون للقصيدة حضورها الجمالي أيضًا.

س: هل استطاعت القصيدة الشعرية، ترويض الأشياء من حولنا، بعثها، كرغوة، كاشتهاء الأمكنة والأزمنة، أتكون رحلة تاريخية، تستفحل ذواتنا عشقًا، تغرز فينا كل شيء، الذي نبصره ولا نبصره؟

ج: القصيدة الشعرية لمن لهم توجه أو ميول أدبية أو فنية، غالبًا ما تفتح لهم أفقًا أوسع في النظرة إلى الكون والحياة. وهذه إضافة مهمّة في تكوين شخصية الإنسان. كما أنّ الشعوب والأمم التي تمتلك أدبًا رفيعًا، يعدّ ذلك من سماتها الحضارية التي تحسب لها، بينما الشعوب التي لا تملك لغة أدبية متقدّمة تعد متأخرة حضاريًّا. ويضاف إلى ذلك أن معجزة الإسلام الخالدة التي هي القرآن الكريم، استطاعت أن تبني من المجتمع العربي مجتمعًا متحضّرًا من خلال التعاليم والإشارات الهادية التي صيغت بلغة أدبية راقية، كان لها أثرها الفاعل في تفاعل العربي مع القيم الهادية التي حملتها آياته الكريمة.

س: في كتابتك القصيدة، هل تضع القارئ في بوصلة امتداد أروقتها أم تدخله التيه بعيدًا عن شرفاتها، معتبرًا -القصيدة -، فتاة عذرية لا ينبغي كشف وجهها إلا بعد عقد قرانها؟

ج: السؤال يحمل في طياته تساؤلاً عن مفهوم الغموض في الأدب، ويمكن صياغته، كالتالي: ما مدى الغموض المشروع للشاعر أو الأديب؟، فهل له أن يلغّز ويصل إلى حالة الكلام المجمل، بحسب تعبير البعض، أم أن هناك سقفًا يجب ألاَّ يتعدّاه؟

ج: شعراء الحداثة ونقادها، يفتحون الباب على مصراعيه ويقولون: إن الحالة الشعرية، هي حالة اكتشافات لغوية، لذا قالوا: ” الشعر لغة “، أي: فنٌّ قائم على اكتشاف مناطق لغوية، وهم على حقٍّ في ذلك، شريطة أن يكون الأديب يحسن استعمال الغموض والترميز بأن تكون العلاقات بين عناصر الغياب وعناصر الحضور منسجمة في الذاكرة الاجتماعية والثقافية، فلا بدّ أن نفرّق بين القول: “سال الحجر”، أي: الماء، وبين: “سالت روح الحياة “. وهنا كلام الأديب الشهير ت . إس . إليوت عن المعادل الموضوعي. ومن المهم الإشارة إلى نقطة مهمة في هذا السياق، وهي أنّ المراد من الرمز: ما تحمله الكلمة من طاقة الإيحاء التي يستحضرها بسبب التراكم الزمني والثقافي والاجتماعي، وليس لتغليف المعنى.

س: هل صدرت لديك أعمال شعرية وإنجازات، ماهي؟

ج: صدر لي ديوان ” نسيج المرايا “، عن المكتبة الأدبية المختصّة في مدينة قم عام 1420ﻫ . كما صدر لي كتابان ليسا شعريين، و إن كانا يخدمان الجانب الأدبي، هما : تكوين البلاغة، وكائن اللغة، وهناك دراسة شبه مكتملة عن علم الأصوات، أسأل الله تعالى أن يوفقني لنشرها قريبًا. على أمل أن يصدر مجموع أعمالي الأدبية قريبًا.

س: إذا ممكن، أن تتحفنا ببعض كلمات من بساتين قصائدك الشعرية؟

ج: بغير وجهكَ قد ضاعت ملامحنا
و كل ألواننا تمحى و تسكننا الـ
تحجرت رئة الدُّنيا فلا نفس
و صار في رئيتكَ الجوّ محتبسًا
و أنتَ مَن أنت ؟ فرَّ الكون من دمنا
و كل أوجهنا في الأفق تنطفئُ
ـموتى ; و بين دمانا يطلع الصدأُ
و سافر الماء فاحتلّ المدى ظمأُ
و فوق أضلاعكَ الأنهار تتكئُ
و راح نحوكَ في كفيكَ يَختَبئُ

أغلقتَ وجهكَ بيـن أوجـهنــا و أعـينُنا دخانْ
لكنّ ظلك في أصـــابعنـا لــيُلْمِـَسنا المكانْ

من عَلَّم الأمواج أنَّ سنا الـــــحياةِ بمقلتيكْ
جُنَّت زوارقنا و هذا الـــبحر يـــحملنا إليكْ

و هنا تغلفنا الثلوج وتنطفي فيـــنا الحيــاةْ
و تظل تحفرُ أنتَ في غدنا الدقائق و الـجهــاتْ

و هناك في الوطن المخبأ في يديكَ هنـــاكَ وردُ
و ولادة زرقاءُ تصنع بعض خطوتنـا و تـــعدو

و هنا احتضارات ملفَّعة بقمصان الــــخريفِ
و الماء من ملحٍ و قرص الشمس في كهفٍ مخيفِ

لكنما اسمكَ وقعُهُ مطر يغازلُهُ الجفـــــافُ
و يداك ساقية و تعرف طعم راحتكَ الضفـــافُ

و هناك في عينيكَ تكبر لــــحظة فتصير أُفقا
و تلامس الثارات وسط قلوبـــنا فتصير عشقا

يا أيها القمر المعبّأ بالضيـــــاء أما رأيتْ
الصبح أطفأهُ الغيابُ وكان يشــرب منك زيتْ

قالوا بأنَّكَ غِبت في الصحراء فــي قبو وغابةْ
ولربما قد كنتَ تسكن وسط بحــرٍ أو سحابةْ

أمّا أنا فأقول لستَ على البحــار و لا السحابِ
أنتَ الحضورُ وكل هذا الكون فــي ظلم الغيابِ


error: المحتوي محمي