فرصة أخرى

بعد وقوع خطأ أو إساءة في حقه يأتي القرار السريع و الحاسم الذي لا تردد فيه ، بقطع العلاقة معه و جعل ما وقع هو نهاية مشوار من العلاقة المستقرة و لا يمكن إكماله إلى النهاية ، و عليه أن يخرج سريعا من دائرة التواصل معه بكافة أشكاله و إقفال خط الرجعة .
تتباين الرؤى حول القطيعة السريعة لمجرد صدور خطأ من أحدهما ، مع عدم إصراره على توجيه الإهانة أو مسح الكرامة لصاحبه ، فهناك من يرى في هذا الموقف بادرة لخلافات قد يشتد إوارها ، و عليه من الآن وقف نزيف المشاحنات القادمة لا محالة ، فهو غير مستعد للعيش في وسط دوامة من المناكفات و المضاربات الكلامية التي تستنزف وقته و جهوده .
هذا التفكير السريع بالقطيعة و المعبر عنه بكبسة زر هو السائد في محيط الشباب و الفتيات ، و لعل شبكات التواصل الاجتماعي تشهد لهذه الطريقة من التفكير ، من خلال حذف الآخر أو تعليق الصداقة معه لمجرد الدخول في نقاش أو رؤية موقف صادر من الآخر لم يعجبه ، كما أن السرعة الفائقة التي ظهرت اليوم في مشهد العلاقات الزوجية في مرحلة الخطوبة ، و الاتجاه بلا تؤودة أو روية نحو طلب الانفصال من أول خطأ أو تباين وقع بينهما ، لهو خير دليل على التركيبة العقلية المفزعة تجاه معالجة الأخطاء و الخلافات ، فلا التصعيد و التعامل معها بانفعالية حادة يعد أمر مقبولا ، و لا القطيعة المسوغة للانفصال من أول خطأ لم نفسح فيه للآخر حتى مجرد التوضيح مقبولة أيضا ، فلا فسحة و لا مساحة من الاختلاف في الرؤى أو قبول الرأي الآخر أو التسامح و قبول عذره إن أخطأ في حقه ، إذ يرى أن المستقبل ينبيء بمشهد قاتم في علاقتهما ، و عليه أن يبادر لحذف أي منغصات تسبب الكدر و الهم في حياته و إن تعلق بإخفاء أشخاص من حياته ، أي الغلطة تكلف غاليا و لا مجال لأي فرصة أخرى يقدمها للآخر ليثبت بها أن ذلك الخطأ غير مقصود ، و أنه ليس بذاك الشخص السيء كما يظن صاحبه ، و أن الأيام ستشهد مواقف تثبت له أنك تحترمه و تتمنى له الخير و تبدي استعدادا لمساندته و التواصل معه بما يحمل الخير للجميع .
في الحقيقة هذا الطريقة من التفكير تنبيء عن ضيق في أفق التعقل و ضحالة وجدانية ، لا تسمح بوجود تباين حول فكرة ما لعدم الاقتناع بها ، و لا تنظر لحقيقة واقعية تتعلق بطبيعتنا كبشر لا نعصم من الخطأ ، فهل يراد منا أن نتحول إلى وجودات آلية (ربورتات ) تسير وفق برمجة ، فنحيا مثالية من التعامل الذي يختفي منه كل أشكال الخطأ بحق الآخر ، فنضمن بذلك نجاحا و استقرار في علاقاتنا ؟
هذا ضرب من الخيال في الحقيقة و مخالف للطبيعة البشرية ، و لولا ورود الخطأ و الإساءة غير المقصودة لما تشكلت ثقافت التسامح و قبول الاعتذار ، و التي تعد من أهم المفردات الأخلاقية و التعاليم الاجاماعية المعالجة لبوادر خلاف قد ينشأ منها ، و تعيد صفو العلاقة و ألقها بعد استشعار الآخر محبتك و احترامك له ، و أنك لم تقصد أي جرح لكبريائه أو إيذاءه .
و هذه الفسحة و البؤرة المشتركة التي تعالج بها القضايا الخلافية بهدوء هي سبب ديمومة العلاقات الاجتماعية و الأسرية ، و علينا التفريق بين أشخاص اعتمدوا الإساءة للآخرين على طول الخط ، و بين زوج و زوجة أو صديق أو زميل عمل صدرت منه زلة في لحظة طيش أو غفلة ، قد أعقبها باعتذار ينبيء عن احترام لم تنحسر مياهه .


error: المحتوي محمي