أيّاً كان الحديث مع عبدالخالق الجنبي؛ فإنّه لن يكون عابراً. ولن تخرجَ من عنده من دون أن يعلُق في رأسك ما سوف تبحث عنه لاحقاً. هذا في الحدّ الأدنى. أما ما فوق ذلك؛ فأصغِ ولا حرج، وناقش وعاند وماحك؛ فإنه لن يُعطيك أقلَّ من ابتسامةٍ من النوع الذي يُرضيك، ولسوف يهدُرُ بصوته حاملاً محفوظاتٍ من الشعر لا قبل لك بوابلها…!
كانت الزيارة من أجل برّ البدراني، محطّ الركبان الغربيِّ من واحة القطيف القديمة. “ساحل البر” كما يسمّيه الشيخ فرج العمران. أو غرب الجارودية كما تقفو معرفتنا الآن. إنه المكان الذي ضُربت فيه آباط الإبل آناء الليل وأطراف النهار، ظَعناً لراحلين، أو قفْلاً لآيبين. المكان الذي تزوّدَ منه الظامئون قبل انغماسهم في مَهْمَهِ الدهناء سفراً إلى قلب الجزيرة العربية وحجازها ويمنها وعُمانها.
لكنّ حديث الزيارة انحرف منذ افتضاض بُكارته. أبو طاهر ـ كما نسميه قبل ربع قرن ـ جرّ المجلس إلى النخيل، وأبي حاتم السجيستاني والبكري ونقائض جرير والفرزدق والصلّتان العبدي وذي الرمّة، ماخراً بمطايا ذاكرته واحات هجر.
يا لهذا الحَفّاظِ الذي يتلو الشعرَ تلاوةً بصوتٍ صميمٍ في تقمّص شخص قائله:
وكأَنَّ ظُعْنَ الحَيِّ، مُدْبِرةً
نَخْلٌ بِزارَةَ حَمْله السُّعُدُ..!
وعلّق بما معناه “لعلّ السُّعُد هو الخنيزي”. وهو تعليقٌ لا يُردُّ، ولا يؤخذ به. لكنه ـ بالتأكيد ـ تعليقٌ يحرُّض على البحث. “زارة” ـ هنا ـ هي الزّارة، المدينة التاريخية القديمة التي لم يبقَ منها إلا اسمٌ لحيٍّ صغير شرقيّ العوامية. ثمة من يقول إن “التعضوض” هو الاسم القديم لصنف تمر “الخنيزي” الذي نعرفه اليوم. لكن الاطمئنان إلى هذا القول مشوبٌ بما نقله الأزهري في وصفه. تلك قصةٌ طويلة. ومثلها قصة عبدالخالق الجنبي المشيرة إلى “السُّعُد”، وهي إشارةٌ جديرة بالبحث..!
بيتُ الشعر مجهولٌ صاحبه. بيد أنه متوفّر في معاجم اللغة. لسان العرب يستحضره في مادة [السعد]، وتاج العروس يستشهد به في شرح [زارة]. وكلا المصدرين يشرح “السعد” بأنه ضرب من التمر، وأنه “الطيب”، أو نبت من الطيب. وكلاهما ـ أيضاً ـ يورد بيتاً مشابهاً لأوس بن حجر:
وكأَنَّ ظُعْنَهُمُ، مُقَفِّيَةً
نخلٌ مَواقِرُ بينها السُّعُد
لكن ديوان أوس بن حجر المطبوع [ص: 22] ينسب البيت الأول أيضاً إليه. والبيتان لهما معنى واحد، هو أن القافلة الراحلة تظهر من خلفها مثل نخلٍ يحمل عذوق تمر السُّعُد. الفرق يكمن في أن البيت الأول ذكر اسم موضع “زارة”. أما البيت الآخر فلا جغرافية فيه. ويقول شارح الديوان إن “زارة حيٌّ من أزد السراة”، وهذا الشرح لا يستقيم عند من يعرف أن النخل لا ينبت ـ ولا يُثمر ـ في الجبال العالية. والأرجح أن “زارة” هي “الزارة” المعروفة في بلاد البحرين القديمة. ويرجح ـ أيضاً ـ أن “السعد” صنفٍ من التمر كان معروفاً في القطيف.
عبدالخالق الجنبي فتح باب البحث بلفتةٍ تُسجّلُ له. لكن الجزم بأن “السُّعُد” هو “الخنيزي” في حاجةٍ إلى مزيدٍ من البحث. إن شارح ديوان أوس بن حجر يقول إن “السعد ضربٌ من رديء التمر”…!
الصورة:
عبدالخالق الجنبي في منزله بحي “الدخل المحدود” متوسطاً كاتب السطور وفتحي عاشور. 4 نوفمبر تشرين الثاني 2017. (تصوير: محسن الخضراوي).
تنويه
يجوز إعادة النشر دون اي تغيير في نص المادة.