-اختلاف في الأسماء واتفاق على الدلالة
أعرف في الصديق حسن دعبل حرصاً دقيقاً على الموروث وتسمياته. وحين قرأ كلمة “امْزَيْزي” احتجّ على الرسم والنطق، وصحّح “مزّيزي”. كان ذلك تعليقاً على منشورٍ عن السمك، عن صغار سمك السبيطي.. منشورٍ مساء أمس.
رأيُ حسن دعبل لا يُتجاهَل. إنه الخبير بشؤون البحر، العارفُ بهيراته وخِيرانه ومحامله. ولطالما استعنتُ به مصدراً في مسائلَ ما زالت ضمن أسرار الشفاهيين المجرّبين البحرَ، أو المحمولين على ذاكرة “الدشة” و “القفال”. تلك أسئلة لا توفّرها المدوّنات، ولا يُسعِفُ فيها حتى google. وهو من خُبرائها..!
ولمّا احتج، أمس، على كلمة “امْزَيزي”، وقال إنها “مزَّيزي”؛ تربَّص بي سؤالٌ صوتيٌّ لم يضع الخطأ والصواب في حسبانه، بل وضع خارطة الألسن في القطيف. وهي خارطة معقّدة توثّق الكلمة الواحدة في بلدةٍ على نحو مختلفٍ عن بلدة أُخرى. ذلك بعضُ ما خبَرتُهُ حين شغلتُ نفسي، ردحاً من الزمن، بدراسة لهجات القطيف..!
وعلى هذا الفهم؛ أجريتُ بعض البحث الشفاهيّ عن اسم صغار سمك “السبيطي”، مستعيناً بعيّنة عشوائية من قائمة أصدقاء، في مواقع مختلفة من القطيف.. وكان سؤالي دقيقاً ومحدّداً بهذه الصيغة:
ما هو اسم الصغير من سمك السبيطي..؟
وقد خلصتُ إلى هذه النتائج:
امْزَيْزي
إنه الاسم الشائع في صفوى. ويكادون لا يذكرون غير هذا الشكل من التسمية. وكذلك هو الاسم الشائع بين العاملين في سوق القطيف. ويبدو أن القطيفيين لا ينفردون بهذه الطريقة في النطق. الكويتيون ينطقوها كذلك.
نـِزِّي
أما في سيهات، فاسمه “نِزّي”. ولا أعرف أحداً غيرهم يقولها هكذا. في السنوات الأخيرة صاروا يسمّونه “امْزَيزي” أيضاً.
مِزَّيزي
هذا هو اسمه لدى سكان سنابس. ويكادون ينفردون به، وبعض الذين سألتُهم انتبهوا إلى وجود “امْزيزي” في الاسم أيضاً.
اتفاق اجتماعي
امْزَيزي، مِزَّيزي، نِزِّي.. كلها أسماء صحيحة لمسمّى واحد. وجاهة صحة الجميع آتيةٌ من اتفاق كلّ مجموعة بشرية على تسمية واحدة بصيغة محددة لشيء واحد. أي أنها مواضعة اجتماعية متّسقة.
تواضع سكّان سنابس على تسمية “مزَّيزي”..
وتواضع سكان القطيف على تسمية “امْزيزي”..
وتواضع السيهاتيون على تسمية “نِزّي”..
وبالطبع؛ لا يمكن وصف أية تسمية بـ “الخطأ”، إلا على أساس مرجعيةٍ لغوية. ولا مرجعية لغوية واضحة لتسمية الصغير من سمك “السبيطي”. بل إن اسم صنف “السبيطي” نفسه لم يُدوَّن ـ تاريخياً ـ إلا عرَضاً في القرن الحادي عشر الهجري (أوائل السابع عشر الميلادي)، في قصيدة لأبي البحر الخطي المتوفي سنة 1028هـ ـ 1609م، وصفاً لإصابةٍ لحقت به من سمكة “سبيطي” طفرت من الماء وشجّت رأسه وأسالت دمه أثناء عبوره البحر بين “البلاد القديم” و “توبلي” في البحرين..
برغمِ العَوالي والمُھَنَّدةِ البُتْرِ
دماءٌ أراقتھا سُبیطیةُ البحرِ
دمٌ لم یُرَقْ من عھد نوحٍ ولا جرى
على حدّ نابٍ للعدوِّ ولا ظفرِ
وقبل قصيدة الخطي؛ لا وجود لأي تدوين تاريخي وثّق صنف “السبيطي” المتوفر في مياه الخليج العربي بكثرة. ولا علم عندي عن مصدر تسمية الصغار منه “امْزَيزي”، أو “مِزَّيزي”، أو “نزّي”. حتى التفسير اللغويّ يبدو عسيراً في ربط بالمعنى اللغوي القديم..!
مزّة.. مَزيز
إن معاجم اللغة تشرح معنى “مزيز” بـ “التفوق” و “التفضيل”.. فـ “المِزُّ، بالكسر: القَدْرُ، والمِزُّ: الفضل، والمعنيان مقتربان. وشيءٌ مِزٌّ ومَزِيزٌ وأَمَزُّ أَي فاضل. وقد مَزَّ يَمَزُّ مَزازَةً ومَزَّزَه: رأَى له فضلاً أَو قَدْراً”. وتتفرّع دلالات الكلمة وأبنيتُها الصوتية، حتى أن “المُزُّ والمُزَّةُ والمُزَّاءُ: الخمر اللذيذة الطعم، سميت بذلك للذعها اللسان، وقيل: اللذيذة المَقْطَع”.
ومن معاني الكلمة:
ـ مَزَّه يَمُزُّه مَزًّا أَي مَصَّه.
ـ والمَزَّة: المرة الواحدة.
ـ والتَّمَزُّزُ: أَكلُ المُزِّ وشُرْبُه.
ـ والمَزَّةُ: المَصَّةُ منه.
ـ والمَزَّةُ: مثل المصة من الرضاع.
وروي عن طاووس أَنه قال: المَزَّة الواحدة تُحَرِّمُ.
ـ وتَمَزَّزْتُ الشيءَ: تمصصته. [لسان العرب: مزز، القاموس المحيط: مزة].
وليس من السهل ربط اسم سمك “امْزيزي، مزّيزي، نزّي” بأيٍّ من هذه المعاني دون مصدرٍ يُخبرنا. التفسير وحده لا يكفي، حتى مع الانتباه إلى أن صغير سمك “السبيطي” لذيذٌ جداً و “يمزُّ” حتى الكبير منه…!
والله أعلم.
سمك “امْزيزي، مزّيزي، نِزِّي” جاهز للتتبيل والإعداد. 1 نوفبر تشرين الثاني 2017.