«شرْيَةْ صفوى».. آخر ما تبقّىْ من وثائق شَرْجات الماء

نحتاج إلى شاهدٍ من أهل الزمن؛ ليحدّد المكان التي تظهر فيه سيدة غربية إلى جانبٍ من بُحيرة ماء صغيرة في صفوى، حسب الصورة المنتشرة تواصلياً. ثمةَ ما يُشير إلى أنها عين “داروش”، أو “العين الجنوبية”. بيد أن الحسم لدى صاحب معلومة، لا صاحب تفسير أو توقُّع..!

الشرية بُحيرة
وأيّاً كان اسم المكان؛ فإن جوهر الدلالة ـ في رأيي ـ هو صورة “البحيرة” التي لا تدلُّ على “عين” حسب الفهم الذي نحمله؛ بقدر ما تدلُّ على واحدٍ من أهم شواهدِ الماء قبل هجوم النفط. الصورة المنتشرة تواصلياً؛ تعرض “شَرْيَةَ” ماءٍ من “شرجات” القطيف التي “كانت” واسعة الانتشار.

“الشَّريَهْ” أو “الشّرجة” ـ في القطيف القديمة ـ هي بحيرةٌ صغيرة، ترفدها العيون بالماء الجاري. وقد تحيط بها البيوت، وتصطفّ في حوافّها مواقع عليها ما يُشبه المصطبّات، يأتيها الناس، ويتزودون بالماء، ويغسلون ثيابهم وأوانيهم. وقد تتفرّع من “الشرية/ الشرجة” قنواتٌ تمرّ من خلال البيوت مؤمّنةً شبكة عامّة من الماء الجاري الصالح للشرب والغسيل والطهارة. وقد يضع بعضهم على مواقع من هذه القنوات تحت اسم “شريعة”، ويمنحون المكان أسماءهم..!

إدارة الماء
كانت عيون الماء تفيض عن حاجة السكّان بمراحل، ولا سلطان لهم على استمرار ينابيعها من تدفق غزير يتفجّر ـ على مدار الساعة ـ من أكثر من 200 عينٍ جوفيةٍ تتقاسمها قرى القطيف وسَيحاتها الزراعية منذ تاريخٍٍ سحيق. وكلُّ ما توصّلت إليه خبراتهم في إدارة الموارد المائية؛ تركّز في توزيع حصص الريِّ على مزارعي البساتين، وفقاً لما عُرف بـ “الَوَضَحْ”*. وعلى هامش هذا التوزيع؛ استفاد السكّان من المياه العذبة الصافية في يوميات حياتهم الأخرى.

ومع ذلك؛ احتاج الناس إلى تسهيل استخدامهم الماء الصافي الجاري؛ فكانت “الشرجات/ الشريات” أشبه بخزّاناتِ ماءٍ مفتوحة تلبّي هذا الاحتياج الأساسي. بدلاً من الذهاب إلى العين البعيدة، يذهبون إلى “الشرية” الأقرب المحاطة بـ “الشرايعْ”.

شَرْية صفوى
ميزة “الشرجة/ الشرية” هي أن ماءها ماءُ ريٍّ يأتي من العين مباشرة. على العكس من ماء “الخريس” الذي يأتي من صرف البساتين. هذا الأخير مليء بالشوائب والملوحة ويتجمع في مواقع غير مزروعة، وتتوطّن فيه القوارض والحشرات والنباتات البرّية.

كانت “الشرجات/ الشريَات” منتشرة في حواضر القطيف. حتى أنهم أطلقوا اسم “سِلْس شَرْيَهْ” على صنفٍ من التمور الرديئة الثمر. وربّما كانت صفوى الوحيدة التي احتفظت باسم “الشَّرْيَهْ” حتى الآن لواحدٍ من أحيائها القديمة الواقعة في محيط عين “داروش”. طبقاً لكبار سنّ؛ فإن “الشرْيهْ” كانت بحيرة ماءٍ صافية مرفودة بماء عين داروش، وكانت من الحجم بحيث أحاطت بها البيوت في وقتٍ متأخر. وقد تفرّعت منها “شرايع” عُرفت بأسمائها، أمثال: “شريعة العوسجي/ العوسَيي”، و “شريعة الدَّيلَهْ”. وهناك شرائع أُخرى مرتبطة بشكل غير مباشر بـ “الشرية”، يُذكَر منها: شريعة عمبرَوه، شريعة بيت علي بن سيف، شريف بيت شرف أسعد، شريعة بيت عبدالله بن حسين الصالح، شريعة بيت منصور عبدالهادي، شريعة بيت جعفر بن الشيخ، شريعة مكّية، شريعة مدن. وكلها كان يُروَى منها الماء.

الآن؛ اختفت الشرية/ الماء وبقي الاسمُ دالّاً على الحيّ..!

قد تكون صورة السيدة الغربية في مكانٍ ما من محيط عين “داروش” أو عين “الجنوبية” أو غيرهما من عيون صفوى التي “كانت” دفّاقةً بلا توقف. لكن هذا التجمع المائي لم يكن يُعرَف باسم “عين”، بل باسم “شَرْيَهْ”. وفي هذه التسمية تكتنز كثيرٌ من المداليل البيئية والاجتماعية في حياة القطيف الريفية القديمة.

كلمة فصيحة
بقيَ لنا أن نُشير إلى “الشرجة/ الشرية” كلمةٌ عربيةٌ فصيحة تماماً. عرفها أسلافنا العرب قبل قرونٍ طويلة. فـ “الشَّرْج، بالتسكين: مَسِيل الماء من الحِرارِ إِلى السُّهولة، والجمع أَشْراج وشِرَاج وشُرُوج”. والحِرار هي الأراضي الصلبة. و “الشَّرْجة حفرة تُحفر ثم تُبْسَطُ فيها سُفْرة ويُصَبُّ الماء عليها فتشربه الإِبل”. [لسان العرب، الصحاح في اللغة: شرج. القاموس المحيط: الشرج]. وكلتا الدلالتين أساسها الماء، ويمكن القول بأن استعمالها في الصحراء غير بعيدٍ عن استخدامها في الريف.

أما اسخدام الياء بدلاً عن الجيم “شرَيَه، شرجة”؛ فهو ـ أيضاً ـ استعمال عربيٌّ فصيحٌ عرفه العرب.

الصورة القديمة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي.

نخلتان من صنف “سلْس شَرْيَهْ” في نخل “الدودية”، سيحة الخويلدية، القطيف السعودية. 8 أغطس آب 2017.


error: المحتوي محمي