قلوبهم بحجم قبضة كفوفهم ، لكنها وسعت الدنيا برمتها ، عيونهم مَلْئى بالعطاء من أدنى أرض لأقصى سماء ، أرواحهم خفيفة كخفة ريشة تتراقص على نغم النسمات ، لاتُثقلها الأنا المقيتة ، ولايُقعدها ثقل الذات ، أياديهم المعطاءة ممتدة بقبسٍ من جمال الله ، فما العطاء إلا هبة الله ، والترجمان الخفي للحب حيناً ، والتضحية حيناً ، والإيثار حيناً ، والجمال الحقيقي المتصرف في كل الأحيان ، وبمجمل الوصف ، لهم مَلَكَة حباهم الله بها فيلجأ لهم من له حاجة ، فلا يستطيعون إلا أن يلبوا طلبه متناسين الوقت أو الجهد ، فتراهم وكأنهم يمسحون على القلوب المكروبة ، فلا تكون بوجودهم هناك ضائقة أو كربة ، نعرفهم ونعرف أن أبوابهم مُشرَعَة ، ثم تأتي لهم الدنيا بوجهٍ عابس في حاجةٍ طلبوها حتى يتنكر لهم من نصروه بالأمس ! هؤلاء الناس يرون أن قسمتهم ضيزى مع الآخرين وحظهم فاتر الوجه عابس ، قلما يجدون من يعرف قيمة مايقدمونه من عطاء وتفاني ، ولكن خلف الستائر هناك يد الله التي دائماً تأتي لينحسر الغطاء عن الأنفس ، وتزول الأقنعة عن الوجوه فيرون النفوس عاريةً أمامهم ، وتلك هبةً ميزهم الله بها ، ثم هم في كل مرة يقفون لأداء القسم على أنفسهم أن يكفوا عن خدمة الناس ، يحاولون لملمة ماتبقى من شيء حسن في الآخرين ويذهبون بعيداً ، وما إن يعود الذي استنصرهم بالأمس حتى يحنثون اليمين التي أقسموها وكأن شيئاً لم يكن ! هم ليسوا ملائكيون ولايتقمصون المثالية ولكن قلوبهم سلاطينهم ، لونها الأبيض كفيل بالغفران والرحمة والسماح ، عرفوا السعادة في العطاء وعرفتهم الملائكة حين كتبت أسمائهم في صحف المعطائين ، متعبون من الدنيا وأهلها ، فديدنهم هذا لايطيقه إلا من جزم على أن يأتي الله بقلبٍ سليم ، ومن ثم لايتوبون عن دأبهم .
وبين سيناريوهات الحياة المتكررة يخرج لنا من يحدثهم عن حب الذات وأن ترياق الراحة أن يتعلموا أن يقولوا لا لخدمة الناس ، فسمعنا شعارات تتردد أبحث عن راحة نفسك ، واترك الدنيا بناسها يموجون في بعض وانعزل ماشئت ، قدِّر نفسك وأحببها .
لكم كان شعار مقيت ذاك الذي صاحوا به في هذه الأيام ( أحبب ذاتك ) أرادوا به أن يكون دواءً لجراحات الكرماء وذوو التضحيات العظيمة التي لم يبلغها سواهم ، قالوا لهم دوائكم في قطع أيديكم الممدودة لإنتشال المهمومين ، هؤلاء المهمومين يتملقونكم اليوم حتى إذا قضوا منكم حاجاتهم داروا ظهورهم عنكم ، نعم داروا ظهورهم عنهم وثم ماذا ؟هل من الكياسة أن نتوجه بلوم هؤلاء الكرماء ونصفهم بالضعف والاستسلام للناس ؟ ونطلب منهم أن يدفنوا فضائلهم الكريمة ؟ ونهمش الحديث مع المتخاذلين والمتنكرين وكأننا نعزز لهم أنانيتهم ؟ هل نعالج المريض حتى يشفى أم نعلل المعافى حتى يمرض ؟ بهذا نكون ندفن القيم الجميلة التي جاءت بها السماء على مر العصور ونحيي سمات الأنا والإنعزالية واللامبالاة إلا بالنفس !
لثمة غايةً سامية أجل وأرفع من أن يأتي أياً من كان ويتحدث لهم عن تتويج الأنا التي تماهت في نفوس من يحبون ، لربما يسمعونكم ولكن يعلو في آذانهم صوت آخر ، ذاك الذي عرفوه فتشبثوا بحباله الخشنة رغم تشقق كفوفهم لكنهم عشقوا صوت الله وصوت من عرف الله .
حين سطر أقدس صورٍ لنبراس السعادة الحقيقي فقال : وأجر للناس على يدي الخير ولاتمحقه بالمن ، وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح ، وأجزي من هجرني بالبر ، وأثيب من حرمني بالبذل ،وأن أخالف من اغتابني إلى حسن الذكر ، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة .
لن يدرك أولئك قصر الدنيا وجمال أن تعيشها في تسامح ومحبة ، وإن هضم حقك الناس ففي كنف الله لايضيع مثقال ذرة ، وإن كانت خيبات الأمل تزداد مع تقدم عمرك ، لثمة تربية سماوية تختزل كل آلامك وجراحاتك {إنما نطعمكم لوجه الله لانريد منكم جزاءاً ولا شكورا ً} ليس المهم أن ترى فضيلة إحسانك في وجه البشر طالما غايتك وجه الله ، سواءاً أنكرَ ذلك من أنكره أو أقرهُ من أقره ، في كنف الله لايُنكر إحسان ولا ذكر طيب ، لا تيأس ولاتدفن منبعك العذب بتراب العزة بالنفس فتبقى ذاوِ النفس مُنكسر القسمات ، فأنت ممن قال لهم أمير المؤمنين 🙁 من نعم الله عليكم حاجة الناس إليكم ) ، ولعمر وجهك الوضَّاء لهو من نور إحسانك وقلبك الكبير الذي لم يعرفه عبَّاد الأنا والذات.
في زمن متسارع تعود أهله على تحصيل كل مايريدون في ساعته حتى جزاء الإحسان !، فجاء لهم بتخدير مؤقت وسريع كما يحبون في إحدى زوايا الكفيهات ودور المساج ورحلات قصيرة أو طويلة في سفر ، ومُتع لاطائل منها وساعات لاحصر لها تنقضي وتمضي، يظنون بها الدواء لكنها وصفة عسل بالسُّم فتكت بالأرواح حتى ماتت !
وصفة مميتة راجت في سوق الأنانيون فإنتفش ريشهم وتباهوا بأنفسهم وإذا بهم يهيمون بأنفسهم في كل وادٍ يدللونها ويبسطون لها ماتحب تاركين ورائهم أولاداً أو أزواجاً أوآباءاً بحاجتهم ، وبيوتاً من خلفهم هُدمت وأنفس كُسرت ، يبسطون أكفهم للسعادة لتبلغ أفواههم وماهي ببالغته ، وتراهم كلما هبت عليهم ريحٍ من ضجر ذهبوا نحو بحيرة الماء التي ذهب لها نركسوس ورأى نفسه آية في الجمال فعشق نفسه حتى سقط ذائباً في جمال صورته المنعكس في الماء وغرق ومات ، و مذ ذاك الحين استحق النرجسيون وصفهم .
ماذا تعني أن تحب ذاتك ؟
في مفاهيم اليوم أن تحب ذاتك أن تبعدها عن كل مايعكر صفوها ولاتسمح لأي أحد أن يمسها بسوء ، سواء أكان أب أو أم أخ أو أخت أو أزواج أو أبناء ، حوِّل الدماء إلى ماء واعصب عينيك واصغِ لصوت الأنا وكفى ، لاداعي للمحاولات البائسة في الحلول مع الأهل أو الأصدقاء! الحياة السريعة تفرض عليك أن تتسابق معها فاسبقها واحجز لك كرسي في منأى عن الجميع ، ولك أن ترتشف قهوة و تتسول حباً واهتماماً من الآخرين في صورة شاركها عبر حساباتك في الوسائط المتعددة فقد تشغل شيئا من فراغك المنخور حتى الأحشاء ، لاتقل لي قد بالغتِ فصرخات الوحدة تملأ الدنيا ضجيجاً ، الساعات تمضي على عجل وينتهي اليوم على أصداء خاوية ، الوسائد في آخر الليل تصدح بالوحدة التي فتكت بالأرواح !
أن تحب ذاتك هو أن تخاف عليها يوم أن يسألها الله وحدها ، فماذا تكون قد قدمت لها ! لاتنسى نصيبها من الدنيا ولاتجعل نصيبها كل الدنيا ، قربها من الله وممن عرف الله فما يبقى في ثوبك من مجالس العطارين كما يبقى في روحك من مجالس الخيرين ! وفي رسالة الحقوق تجد آفاق جمة لمداخل روحك ، ادَّخر لها مايؤنسها في أيام وحدتها في تلك الحفرة الصغيرة ، لعلنا حينما نقدمها بين يدي الله كنا قد قربناها منه وأدَّينا فروض حب الذات الحقيقي !