أمي من فريق الأطرش (41)

يتثنى الظل فوق أجساد المتعبين، الغافين راحة في حضن البساتين، ضوء نافذ يتسلل على هاماتهم كلما داعبت الريح الأغصان. إغفاءة حلم والحلم أخضر، مروج مشبعة بجداول الماء، بين الحلم واليقظة يرزق الله عباده بغير حساب.

يصحو الشاب “محمد رضي هبوب” من نومه وتباشير الفجر تلوح في الأفق، أسبغ الوضوء من ماء “الركية”، وافترش العشب متوجهًا صوب القبلة، نادى ربه بعد أن فرغ من صلاته أن يهبه رزقًا مضاعفًا تعويضًا عن أيام الانتظار الخاوية. راح للحظيرة مستبشرًا برؤية الجحش الذي اشتد عوده وهو ابن السنتين، ألفة متبادلة بين الاثنين، برغم “التأديب” الذي طاله بعصا غليظة على ظهره وأوراكه قبل أيام! بعض الحمير لديها فرط حركة ولا تستجيب لأحد إلا بعد أن تأخذ قسطًا من الضرب بإيقاع مدروس على مدى ثلاثة أيام، طريقة متبعة عند العارفين بتربية الحمير.

صعد الشاب على صهوة حماره المفتول العضلات مشدود القوام، بعد أن أكرمه طعامًا وشرابًا، متوجهًا به الى تجمع “الحمارة” بجوار حمام تاروت، أراح راحلته وجلس مع المنتظرين رزقهم، عيونهم تبصر العابرين ممن يحتاجون لمشوار توصيل أو حمل أغراض، مضت ساعات الصباح الأولى وكل “الحمارة” تفرقوا لمشاوير يمينًا وشمالًا، ظل الشاب وحيدًا، يمني النفس بطلب يأتيه قبل انتصاف النهار، أحلام اليقظة تذهب به بعيدًا والخيالات تناجيه بألا يكون يومه مثل بقية أيامه الفائتة خالية الوفاض. وضع رأسه على ركبتيه ماسكا عودًا يخربش به على التراب أشكالًا حرة، تسلية لكسر رتابة الانتظار، وإذا بأربعة أقدام حفاة تقف عند الخربشات، رفع رأسه ليرى الوجوه، أبصر تعبًا يكسو ملامح شخصين فارعي الطول، وقف فورًا ورد عليهما السلام وأجابهما عن اسمه ولقب عائلته. قالا له هل بإمكانك يا هبوب أن توصلنا إلى منازلنا في بلدة “أم الساهچ”، تأوّه قليلًا لبعد المشوار، وفي الحال استجاب لطلبهما قائلًا: “توكلنا على الله”. صعد الاثنان على ظهر الحمار، والزمن يشير إلى نهاية حقبة الأربعينيات الميلادية قبل أن تصنع عربات الحمير “الگواري” وحين أتت أصبحت خير معين لأهل “الحمارة”، كثر الطلب عليها بل ازدهرت سوقها أضعافًا مضاعفة. خرج الثلاثة من فضاء سوق تاروت سالكين طريق “القطاعة” مخترقين دروب مزارع ونخيل “العماير وأبو زمر وبساتين السعلول ولحويتم والمقاطن والمراشدي والجساسي والرواحين، وأم الشجر ونخيل المناخ”. الشخصان في راحة تامة يتأملان الباسقات وأمواج الخضار، أما “هبوب” فيهرول أمام حماره ماسكًا بالحبل المتدلي من رقبته يوجهه حيث يريد، خاضوا البحر واجتازوا “المگطع” بحركة بطيئة، نظرا لبداية انحسار المد، عرف من الرجلين أن التعب انهكهما برًا وبحرًا بعد أن قطعا مشيًا على الأقدام من ميناء دارين إلى سوق تاروت وهما العائدان من رحلة غوص ولكن السرور بادٍ على محياهما. حراك متصاعد وخطوات أرجل الحمار أوسع على يابسة القطيف، ومعها تتزايد هرولة “هبوب” المضطر لمجاراة حماره، مخترقًا به دروب بساتين البحاري مرورًا بالعوامية، كلما قطع مسافة زادت في نظره بعدًا وكأن الدرب يتمدد عمدًا، بدأ الإنهاك ينالهما حين هبطا البرية، تفافمت المعضلة، الأرجل تخبو في الرمال الحارة، يجاهد هبوب بنهوض قدميه بينما حماره قل اندفاعه وتراجع عزمه، يجره جرًا، بتربيت على أوراكه. أدرك الجميع العطش ونالهم التعب والإعياء، استنفذت طاقة “الشاب”، وقدماه تتعثران في بحر من الرمال، بالكاد يخطو، يقف برهة ليسترد أنفاسه، يترجل الرجلان لإراحة الحمار بعض الشيء، ويصعدان ثانية، يتواصل المسير لمشوار عسير، مكابدات درب بين زرع وبحر، ورمل وشمس. بلغ بالرجلين حدود “أم الساهك”، لاحت النزل، ووصلا الاثنين كل عند باب بيته، أسقوه ماء شرب وارتوى، ألزموه بالضيافة وتعذر لأن أهله لا يعرفون أين وجهته اليوم، فقد تأخر عليهم أكثر من اللازم.

الشاب محمد هبوب على قدر الإنهاك الذي زلزل جسده وجعله خائر القوى، كوفئ بمقدار مجهوده الجبار بقطع مسافة تقدر بـ26 كيلو، لقد أعطيت له “4 آنات” أودعها في جيبه انتصارًا “بالكروة” التي لم يكن يتوقعها، سرور اجتاح كل مشاعره، راجعًا يتغنى على صهوة حماره، قاصدًا جزيرة تاروت، عبق “الگرم” ونسائم البحر تخلبان حواسه المنتشية غبطة وسعادة، النوارس تحوم على رأسه وكأنها تشاركه فرحة رزقه. استقبلته أسرته وسط البساتين الخضراء بعد أن طال انتظارهم الممزوج بالخوف والقلق، قبل “اسلوم الشمس” ترجل من على صهوة حماره، مقبلًا عليهم، واضعًا يده في جيبه يسمعهم صوت (الگرگشة)، عد أمامهم “الآنات الأربع” مرارًا وتكرارًا بتقسيم ما يحتاجونه من لوازم البيت المبني من جريد النخل، رُزِق إعاشه لمدة شهرين تحصل عليها من أهل الجود والكرم، مقابل سعيه الجبار لشاب يافع رفيع العود، فقد غنم الرجلان من لآلئ البحر، ونال هو نصيبًا من ثمن البيعة و”يا رازقني ارزق غيري”.

الذاهبون للبحر يدفعون لوعة الغياب، ليست مشاوير الصيد ولا السفر التجاري فحسب، إنما رحلات الهلاك نحو أعماق البحر. حينما تبدأ بشاير الصيف يتجه البحارة وكثير من المزارعين لرحلات الغوص، حيث تخلو الديار من رجالها كلٌ يتوجه في طلب رزقه، إلا بضعة قليلة منهم يبقون للحماية، هم حراس المكان متأهبين ببنادقهم، لصد غارات “الدگاگة” بدو البر، الطامعون في نهب خيرات النخيل والمنازل وما حوته الزرايب من بهائم، وأيضًا تحسبًا من أصحاب النفوس المريضة التي تسول لهم أنفسهم البحث عن فرائس اللحم.

ما أقبح ذاك الداعر الذي مر على امرأة تغسل ملابس أطفالها “ومواعينها” وقت العصر، تحرش بها لفظًا على ضفاف العانة واضعًا “ثماني روبيات” في “گفة عشاها” طامعًا في ليلة حميمية، وألقى على سمعها غزلًا معسولًا، “يا الحلوة جاينش الليلة حتى نستانس” لم تنبس بأي كلمة أقنعته نفسه بأن سكوتها علامة رضا، وحين أقبل الليل قصد بيت الشابة. جاء الولهان وأول شيء يقابله العريش المفتوح، تبسم حين وجد ضالته ممددة على جنبها في رحابه، انفتحت أساريره وظله يتبعه في ليلة مقمرة، اقترب من الجسد المستلقي على الحصير والملفوف بذات المشمر الذي كان عليها حين رآها، باشر بفتح الوجه بهدوء وغنج، واللهفة تسبقه، وإذا بكفوف جار المرأة المتنكر بزيّها، تمسك برقبته، أوغلت الأنامل الخشنة ضغطًا بضغط، غاب صوته دون نفس يكاد أن يختنق “فطس الخبيث” حتى كادت روحه تطلع من جسده، بينما ألفاظ الرجل الغيور على زوجة جاره الغائب في رحلة الغوص تقذفه سبًا وشتمًا “يا قليل الحياء شفت المرة وحيدة تبغى تأخذ بغيت منها، تفو عليك يا أسود الوجه”، بصق في وجهه بتهديد ووعيد “إن عدتها مرة ثانية يا نذل بگضي عليك”، محذرًا لو أتى سيقبره دون غسل أو كفن، لعنات صبت عليه صبا “إن عدت عدنا وإن تبت تبنا” نفس دنيئة ولّت الأدبار في بهيم الليل تجر أذيال الخيبة والعار، قالت الشابة بعد أن شكرت جارها الشهم والتي التجأت إليه ودفع عنها ضرر الذئب البشري، ماذا تفعل بـ”الثماني روبيات” قال لها “خذيهم حلال عليش، من قايل له هالخبيث يتقصد بنات خلق الله، من تحبل للقنص القنص صاده”، أوت إلى فراشها هادئة مطمئنة تشكر ربها بأن لديها جارًا ستر عليها وحماها من أذى ذئب بشري.

حماية المكان، أعراف متّبعة بين الذاهبين في رحلات الغوص وبين حراس المنازل والمزارع بحفظ الأمكنة ومن فيها من عبث العابثين، فكل عام يتم التبادل بينهم، أعراف متوارثة لحماية العرض والمال. البحر بامتداداته ينادي خال والدتي حجي عبدالله آل زرع، وهو ابن الثامنة عشرة صعد على ظهر سفينة السردال منصور العبدالمحسن -قائد النواخذة- الذي بحوزته أكثر من محمل مع إخوته حجي عبدالله وحجي محسن في رحلة غوص مثل بقية الشبان الساعين في طلب الرزق. رجال يصعدون على ظهر السفينة بعد توديع زوجاتهم، والأمهات اللاتي يبكين بكاء شديدًا،خوفًا من رحلة بلا عودة، وكم من أنفس وافاها الأجل ألقيت حسرة في عرض البحر! غياب يستمر بين شهرين إلى ثلاثة يجوبون أنحاء كثيرة من الخليج بحثًا عن أماكن “الهيرات” وحين يجدونها يعسكرون على سطح الماء أيامًا وليالي، يقصدون فقط شبه جزر صغيرة طافية فوق الماء والتي تسمى “حالة” وذلك من أجل إيقاد النار لطبخ الأرز وشوي الأسماك على الحطب. خال والدتي الشاب عبدالله مهدي آل زرع ينام على حصيرة ضيقة تسمى “حصير غواص”، وكل غواص ينام على جنبه نظرًا لمحدودية سطح السفينة وكثرة الرجال. يعاود عبد الله حلم يرى فيه والدته “مخلوقة” رافعة يدها تدعو له بالفأل الحسن: “يا رب ارزق ولدي عبود ويسر أمره”، قلبان يتخاطران أثيريًا، وهو يرى طيف والدته يرتسم على صفحة الماء “دير بالك زين يا ولدي، والله ينجيك من أهوال البحر” شاب اغترب عن أمه منذ شهرين، هل سيعود إليها ظافرًا بمكسب يغير من حياته مثل فلان وفلان. ينظر للبحر فجر كل يوم فتهاجمه كوابيس التيه لبحارة قضوا نحبهم في لجج الأمواج العاتية.

رحلة الغوص مقسمة بين الرجال، هذا طباخ وذاك “تباب” صبي خادم، و”نهام” مطرب السفينة، و”سياب” الذي يسحب الغواصين من قاع البحر بحبل مربوط بقطعة رصاص أو حديد بين إبهام وإصبع قدم كل غواص، وما أن يحرك الحبل بيديه وهو في الأسفل إذا ملأ “الديين” المعلق على صدره وهو سلة مصنوعة من خيوط يضع فيها المحار، فيجره “السياب” للأعلى لمساعدته للخروج سريعًا لكي لا ينقطع بقايا نفسه المختزن. نزول الغواص نحو القاع عملية شاقة تحتاج لدقة ومهارة برمي سريع ونفس طويل، وليس كل بحار على ظهر السفينة بقادر على الغوص، كثير منهم يخشون الغوص خوفًا من المخاطر المجهولة، رحلة الأربع أو الخمس دقائق تحت الماء هي نزول نحو الهلاك، فلا أسطوانة أكسجين يتنفسون منها لتعينهم للبقاء فترة أطول، ولا معدات للسلامة ولا بدلة سباحة خاصة، فقط “فطام”وهو مشبك يضعه الغواص على أنفه منعًا من دخول الماء لجوفه، وفي القاع يزداد الضغط على الأذنين ويا له من عذاب.

يد تتجرح برغم لبس قفازات صغيرة “مخبط” على الجزء العلوي من الأصابع، تهترئ من كثرة اللبس وغطس الماء، أنامل خشنة تجرح من حدة أطراف المحار والملتصق بعضه بكتل حجرية أو شعب مرجانية، فضلًا عن وحوش البحر، أسماك القرش (الجراجير)، المتربصة بالغواصين، صراع بين كائن متوحش لا يرحم إذا ألم به جوع، كم فتك بأنفس في مجاهيل الظلمات، ومن نجى أصابته جراحات شتى.

حين ينزل الغواصون لقاع البحر كل يتشهد فلا يدري أيخرج أم نزول بلا عودة، ومن يخرج سالمًا كأنه ولد من جديد. على متن سفينة السردال منصور آل عبدالمحسن جلس بحارته يفلقون المحار على وقع المواويل البحرية بصوت “النهام”، يزيدهم نشاطًا وحيوية، يبدد عنهم وحشة الغربة ويذكرهم بالأهل والأحبة والتواصي بالصبر. بين لحظة وأخرى يعثرون على “قمشات” أي لؤلؤ صغير ومتوسط الحجم. أحد البحارة أضناه كثرة الفلق وأعجزته محارة متصلبة أبت أن تفتح، ساعده زميله وبشدة بأس فتحت بعد عناء، تهللت وجوه وانفرجت أسارير وبلغت الحناجر صياحًا وصفيرًا “الله أكبر يالربع حصلنا على دانة عودة”.

زفة الصلوات، حف البحارة بنواخذهم يرقصون ويصفقون، وبأعلى صوت النهام ومواويله الشجية يردد حمدًا وشكرًا. حالة الفرح دفعتهم حماسة للبحث عن “مغاصات” أخرى، لعلهم يظفرون “بحصبة” ثانية، تحصلوا على “قماشات متعددة” الأحجام، الأمر الذي جعلهم يتأخرون بضعة أيام عن العودة المعروفة “بالقفال”، أي نهاية موسم الغوص، وهو وقت بدء تباشير دخول الشتاء “إذا برد الوقت ما في بحار يدش الغوص”. ظن حجي مهدي آل زرع أن ابنه عبدالله قد أصابه مكروه أو من معه، بينما زوجته “مخلوقة” تصيح وتلطم على رأسها وتقول: (ما يندرى ولدي عايش لو مات، كل الغواويص بمحاملهم ردوا إلا محمل حجي منصور مارد)! أفكار سوداوية كأنها طيور أسى تحلق على امتداد “حوي” بيت آل زرع.

عند العصر أتى الشاب عبدالله من رحلة الغوص، حضنته والدته بحرارة اللقاء وهي تبكي من شدة الفرحة “جيت يا ولدي، كواك الله، أكول عبد للحين ما جاء، ما يندرى ويش صار فيه، ضربتني هواجيس عليك، الحمد لله يوم الله جابك لينا سالمًا يا ولدي” – مخلوقة جدة والدتي أم أمها، تبدل القاف كافًا-، في اليوم التالي أتى “النوخذة” وقت الضحى دخل بيت آل زرع وهو معروف لدى العائلة، فرشت له “مخلوگة” حصير وضيفته بقهوة ورطب، وقالت له: “يكول ولدي حصلتوا دانة عودة”، رد عليها بلهجته السنابسية: “إيه والله يا بت حي عبدالله حصلنا دانة بنحطها على رأس النارييلة وإذا انقشرت وطلعت دانة عدلة، اتغنمت غنايمنا”.

العارفون وضعوا اللؤلؤة الكبيرة على رأس “النارجيلة” ومن فوقها الجمر بدلًا من “لوگل” وهو حصاة مدورة صلبة تمنع فتات “التتن” من التسرب عند سحب الرجل الدخان بفمه، سحبث الأفواه الهواء المشتعل “تتنا” على رأس “النارجيلة” عدة سحبات، وطاولوها “بالمنقاش” نبشًا تحت الجمر، وضعت الدانة الحارة على إحدى كفة ميزان اللؤلؤ، تأملوها، تفحصوها، بانت صلابتها ولمعان بريقها الساحر، ولونها الآسر، عرفوا ثقل وزنها، إنها دانة كبيرة وثمينة قيمة وجمالًا، بيعت في سوق الطواشين بمبلغ 20,000 روبية، نال الشاب عبدالله مهدي آل زرع نصيبًا من الغنيمة يقدر بـ2,500 روبية وهو حصيلة “الدانة” الكبيرة، مع بيعة الدانات ذوات الأحجام والأوزان المتوسطة والصغيرة.

قالت “مخلوگة” لولدها: “عبدالله جاب المكدة والحين لازم نعرسه”، تم دفع مهره 800 روبية، وباقي المبلغ لوازم “فرشة العروس” مرايا وسرير و”صندوق مبيت”، وأقمشة ملونة وضيفة غداء وعشاء. زُفّ عريسًا في ليلة مباركة على “طيبة بنت جعفر آل إسماعيل”، وبعد عام رُزِقت بابنها الأول أسمته عليًا، وبينما هو في شهوره الأولى باعت كل “فرشة” عرسها بمبلغ مكّنها من السفر دون ابنها لزيارة العراق، رحلت مع مجموعة من الأهل والأقارب عبر ميناء دارين إلى ميناء البصرة، ثم توجهوا للنجف وكربلاء، وبقية العتبات المقدسة، فرحة عمر حدثت قبل 90 عامًا، أن تتبرك بالأضرحة وتزور الأئمة في ذاك الزمان شيء أشبه بالخيال، زيارة روحانية بفضل غنيمة دانة، مهر وضيافة عرس وسفرة حلم.

البحر برغم مخاطره وقصصه المأساوية لكنه زاخر بالخيرات والأرزاق، كم من أسر تغير وضعها من حال إلى حال، من عسر إلى يسر، من فقر إلى غناء، حدث ذلك بسبب التفاني في العمل والإخلاص في السعي، وعلى نياتكم ترزقون، نعم بالكفاح تتحقق الأماني وتأتي الأحلام واقعًا ملموسًا “من شقى لقى”.

يا ساعين للرزق، رزقكم مقسوم وإن كان في لجج البحر أو أعالي النخل. بين القطوف الدانية ورنين الدانات، تنبرئ غريزة الاستحواذ بحق وبغير وجه حق! صاح النهام: (لا تأمن الدهر ترى الدهر خوان). تقول مرايا الذاكرة بأن جدي الحاج مكي كاظم آل شلي تاجر اللؤلؤ، “الطواش” المعروف، كوّن سمعة طيّبة عند مجتمع البحر في كل أنحاء جزيرة تاروت، بفضل شطارته من شراء وبيع “الدانات” منذ ريعان شبابه، تنامت تجارته المتكئة أساسًا على إرث والده، فامتلك عقارات من نخل ومزارع ودواليب خضراء، شيد بيتًا واسعًا يقع بالقرب من قلعة تاروت الأثرية، منزل متعدد الغرف يضم أربع زيجات، ومجلس عامر يتحول في وقت المناسبات الدينية إلى إحياء ذكر آل البيت.

يقال “كل ذي نعمة محسود”، راح الحاج مكي يتكحل بميل من ذهب ليطرد نظرة الحساد، صوته الرخيم ونظرته الذكية التي تبصر الدانات، يزنها برؤيته الثاقبة قبل أن تلمس فحصًا أو توضع في الميزان، يأتي كلامه صدقًا نتيجة خبرته الطويلة، متمرسًا في البيع والشراء، موثوق الرأي والنصيحة. لديه شريك في تجارة اللؤلؤ رجل من دارين من عائلة “آل ديهان”، شراكة قائمة على المنفعة والمصالح المشتركة. عزم مكي المغرم باللؤلؤ والنساء بالزواج للمرة الخامسة بعد أن سرح واحدة من نسائه الأربعة، زف عريسًا على بنت (آل حسين)، عاش ليلة أنس مع الفتاة الشابة ممشوقة القوام والتي شبهت باللؤلؤ المكنون، وعند الفجر ذهب لحمام تاروت – قسم حمام باشا المسقوف – ليتحمم ويتعطر، وهو الموعود صباحًا قبل طلوع الشمس بالذهاب إلى دارين لبيع داناته في سوق تجارة اللؤلؤ والعبيد بالقرب من قصر محمد عبدالوهاب الفيحاني، نزع ملابسه إلا من إزار، وكل حصيلته من أنواع اللؤلؤ موضوعة داخل “رومال أحمر”، ربطة ثقيلة الوزن، مخبأة في جيب ثوبه مع قارورة دهن عود، وضعهما في أحد “روازن حمام باشا” ونزل للماء، المكان خالٍ من أي أحد. انتعش سباحة وغطسًا وهو يحلم ببيعة موفقة، هم بالصعود، متجهًا “للروزنة”، لكن وجدها خالية، لا أثر لملابسه البتة، تلفت يمينًا وشمالًا، فتش كل “الروازن” لا شيء، جحظت عيناه، ينزل سلم الحمام ويعاود الصعود مرات، ارتعشت مفاصله، ذهول خطفه، جن جنونه “أفتر رأسه”، أعمدة سقف الحمام تدور معه كرقصة زار، انهار نفسيًا وجسديًا أصيب في مقتل، سقط على وجهه، تدحرج من أعلى عتبات الدرجات إلى أسفلها، فاقد الوعي، جرفه الماء عريانًا يصطدم بالنتوءات الصخرية، “مطفح” على ظهره، مر بالنفق المعتم إلى المكان المكشوف من حمام تاروت، وعند حدود مسجد الحمام، شاهده رجلان للتو فارغين من صلاة الصبح وهو يطفو فوق سطح الماء وتبعهم آخر، قفزوا وانتشلوه ظانين أن الرجل مات غرقًا، وجدوا قلبه لم يزل ينبض، “أوه هذا حجي مكي شلي، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما يندرى ويش فيه”، رفعوه من أقدامه عاليًا وجعلوا رأسه نحو الأسفل، أفرغ الماء من جوفه، ثم أوصلوه ركضًا إلى بيته يتقاطر منه البلل والإعياء، ونزف الدم، مددوه وسط “الحوي” كتلة جسد فاقدة الوعي، حلق حوله زيجاته، وأولاده وبناته كل يبكي وينتحب، بعد ساعة من الزمن أفاق وأخذ يهذي بالحسرات “وين رومال اقماشي، وين هوووو، باقووووني أولاد الحرام، راح حلي وحلالي”!

انكسرت شخصية رجل ذي هيبة، أصبحت أملاكه في مهب الريح، كاد أن يرهن منزله الكبير، لكن زوج ابنته عبدالله علي سليس انبرأ له: “إذا بعت البيت وين تروح العائلة، تسكن في الطريق، بيتك وسط ديرة محصنة”، حار في أمره مقتنعًا على مضض، باع نخله “المشحوف” وكذا أعتق خادمه الذي بكى وضع سيده وما آل إليه، ولم تسلم أغراض البيت الثمينة من البيع، ليوفي حقوق الديانة، مثل أي بائع له ما له وعليه ما عليه، وسعى لبيع نخل “الساحوري” و”دولاب الگوع” فلم يتمكن بسبب تداخل الميراث، أملاك ضاعت مع الزمن وأولاده وبناته لم يسعوا للمطالبة بها ولم تزل الأوراق موجودة تثبت ذلك، ومن ضيق حاله قام بتأجير بعض من دور بيته للعرسان الجدد، ليعيل بقية نسائه الثلاثة بعد أن طلق زوجته الجديدة التي لم يهنأ بها سوى ليلة واحدة، يقال أقنعه أحدهم بطلاقها لأنها مقدم شؤم عليه، ولكن الصحيح أنه سرحها بإحسان لأنها تشكل عبء نفقة، وباتت نفسيتة محطمة لا يريد أن يظلم إنسانه شابة.

تكالبت عليه ترثرة الجاحدين وضجيج الشامتين الذين أشبعوه توبيخات منفلتة، وتلومه أصوات “اللي ما يداري حلاله وينتفت له زين يجي يوم يضيع منه ويبچي عليه”، عرض عن اللغو، مشتت الفكر مكسور الجناح، أما الراقصون على الجراح فقد ألقوا في مجلسه قصيدة فحش نكاية في شخصيته المحبة لتعدد الزوجات، طردهم أمام الجمع، فروا هاربين، رافعين صوتهم وهم يعبرون “ساباط” المجلس، “خلي مجابلك للنسوان ينفعوك”! صدى كلمات الشخص المطرود الذي هجاه بقصيدة “أيروتيكية” يرن في أذنه، رددها العيارون بتفكه وتندر، لؤم أنفس لم تقدّر وضعه ولم ترأف بحاله، هذا جزاء من أكرمهم وأغدق عليهم بالأمس، ما أقبح الوجوه اللئيمة التي “رمته بدائها وانسلت” دون مراعاة لمكانته وكرامته.

ثمة أقارب وأصدقاء وقفوا بجانبه معنويًا، خففوا ما بوسعهم من آثار مصيبة زلزلته من غير حسبان، تناوشه التقلبات والحيرة بين التهدئة وفوضى الحواس، شرود وملامة نفس، ينادونه فلا يجيب، ضاربًا كفًا بكف، نادبًا حظه العاثر، متحسرًا على عز قد مضى، يقلب أصابعه التي كانت تداعب الدانات وتستأنس ببريقها، أضحت خاوية، ومصافحة النفعيين له باتت باردة، يعتصره الألم، حياته ضيقة، يتنفس الضجر، ويبتلع القهر، يعض أصابع الندم، وأي ندم لثروة ولت وتلاشت كطيف حلم، بعدما كان ذا حظوة وهيبة ومن أعيان البلد الكبار، هل فقد كيانه وهو في منتصف العمر، أصحيح ما قاله الأقدمون: “المال عديل الروح”؟!.

هي الدنيا يا جداه تعطي وتأخذ، وتفاجئ ضحاياها بين عشية وضحاها، والإنسان في الحياة بين إقبال وإدبار و”من سره زمن ساءته أزمان”، كم آلمه توقف مأتم العائلة لأسباب مادية، مفوضًا أمره لله.

سراق نهبوا تعب الغير دون وجه حق، كشفوا لاحقًا لكن بعد فوات الأوان، لقد بلغ الحاج مكي كاظم آل شلي من العمر عتيًا وليس بقادر على مجابهة المتهمين، قيل بأن غلة الدانات باعوها في سوق المنامة، بعيدًا عن السوق المحلي حتى لا يكتشف أمرهم، لكن الزمن كشفهم وأصبحوا علكة في الأفواه فلا نامت أعين الجبناء.

كم أحزنني عمي عبدالرسول شلي وهو على فراش المرض، قبل أن يودع الحياة سنة 2000م حين قص أبي حكاية والدهما وما جرى “لحله وحلاله” على أيدي السراق، انفجر باكيًا بشكل يدعو للدهشة، نياحة متقطعة وكأن الحادثة وقعت بالأمس القريب وليس قبل 77 عامًا، وبحساب الزمن مر عليها إلى الآن 100 عام، سألت أبي ذات مرة هل عشت في دلال خير والدك؟ قال: “لا. ما فهمت إلا أبوي رجال فقير”، حينها عرفت لماذا عمي يبكي باستمرار عند ذكر تلك المأساة.

كم من مرويات لقرون وعقود مضت، تخبئينها يا جزيرة الكنوز، من علل وأسقام وأفراح وأتراح، ونحيب وحب وعشق وخداع، وتمرد وغدر وعزم وحزم، وضرب أمثال في الود والتعاون والوصال، سنقرؤك سلام الأوفياء وعتاب الأسلاف. يا أرض ديلمون الأولى، يا موطن عشتاروت، أما بلغت أقوامك المتعاقبة بشريعة حمورابي، ألم تنشر على رؤوس الأشهاد الوصايا العشر؟ كل نفحة وكل هسهسة تراب وكل موجة تلت الأناشيد باتباع الخلق القويم، تبتلات أسمعت الأجنة في بطون أمهاتهم، وطافت بالراحلين حياء وحياة، ملعون من تسوّل له نفسه خرق الوصايا، منبوذ من يأكل لحم أخيه حيًا أو ميتًا، طوبى لمن أكل اللقمة من عرق جبينه.

تبارك السماء خطوات الساعين ليومهم فحصادهم ثمرات، والحاملين أرواحهم على الأكف نحو الأعماق، فلق الحظ لهم على الفلك حصباة ودانات، أجسادهم ارتعشت، حناجرهم هتفت، والصبح تبسم، تراقص حلم الحالمين، لنفوس كادحة، معجونة بطين الأرض وشهية البحر، هم كما الدانات تبرق ذمة في عمق الأزمنة وعفة في مستقر الأمكنة.

رحيق الماضي وحنظلة: حكاية جدي حجي مكي تحمل تفاصيل عديدة وجزئيات كثيرة أخذت بعضًا منها على لسان والدتي وأخي عبدالحي وشيئًا مما علق في ذاكرتي على لساني أبي، بالنسبة لحكاية أبو عبد محمد رضي هبوب أبلغني بها خالي حسين هبوب نقلًا عن عمه، أما باقي سرد الحكايات فمن فيض ذاكرة والدتي.



error: المحتوي محمي