الكلمة النافذة

ورد عن أمير المؤمنين (ع): من علم أنَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلَّا فيما ينفعه (تحف العقول ص 100).

الكلمة إذا تناقلتها الألسن هل لها معنى وتأثير، أم أنها مجرد عبارات ينفس بها المرء عن نفسه ويبدد غيمة همه، ويلقيها كفقاعات لا يعول عليها ولا يترتب على ملقيها أي تبعات؟

أمير المؤمنين (ع) يؤكد على أمر مهم وهو تحمل المسؤولية المترتبة على ما نتفوه به من كلمات، فما إن تنطلق تلك الكلمات منا إلا وتسجل تمامًا كأي موقف عملي يصدر منا، ومن تحركت رجلاه في خطى منتظمة ويترجى منها تحصيل مطلوبه ولا يبذلها سدى وعبثًا، فكذلك فلتكن كلماته تمر عبر نظام رقابة وتدقيق لأنه يحاسب عليها في الوسط الاجتماعي وكذلك في عالم الآخرة، ففي يوم القيامة يحاسب حسابًا دقيقًا على كل ما تفوّه به ويتحول في ميزان وصحيفة أعماله إلى حسنة أو سيئة، فلا يمكن في ميزان العدالة الإلهية أن تتساوى الكلمة النافعة والدارة للخير مع كلمة السوء والقبح.

وإذا أتينا إلى ميزان التقييم الوجودي للإنسان والتفاضل بين الشخصيات والمعايير المثبتة في الوسط الاجتماعي وبين العقلاء، فإن منطق المرء وأسلوب حديثه وما يحمله كلامه من ملامسة للواقع يجعله في مصاف من لهم مكانة اجتماعية، بل ويترتب على ذلك أخذ كلامهم على محمل الجد والأهمية والتأمل فيه، بينما نجد التجاهل لمن كان حديثه مجرد صف للكلمات أو لا يعبر عن رؤية واضحة أو مجرد ثرثرة كالدخان سرعان ما يتلاشى، وبالطبع فإن الخلفية والزاد المعرفي والثقافي وأسلوب الحديث وتسلسله يعطي له مكانة، ولعله لا يغيب عن بالنا كلمة (كلمته مسموعة) في الإشارة للشخصية التي لها اعتبار ومكانة في الوسط المحيط به، وهي تعبير عن حكمته واعتبار كلامه موقفًا يعوّل عليه.

وإذا ما نظرنا للتأثير الإيجابي للكلمة فهي كذلك تعبر عن موقف مساند للآخرين، فكثيرًا من الأحيان نقع ضحية الحيرة والهم نتيجة مرورنا بمشكلة أو إخفاق فيغيب عنا اتزاننا الفكري والوجداني فلا نعرف لذلك مخرجًا، ونحتاج إلى من يخفف عنا وطء هذا الظرف ويساعدنا على استرداد هدوئنا النفسي بكلمة مواساة تبدد عنا الأحزان، وتعيد لنا صفاء الرؤية وتحررها من التشوش لنبدأ في مدارسة الوضع وتحرير المشكلة وأبعادها وسبل التخلص منها، والأخ والصديق والزوجة الوفية لا تنسى مواقفهم المتمثلة بمساندتهم بالكلمات المؤنسة والصادقة .

كما أن الكلمة قد تكون نافعة ومؤثرة إيجابًا فإنها قد تكون مدمرة وتسبب الاضطراب في العلاقات الاجتماعية ، وهنا نستحضر تعاليم الإسلام بتهذيب اللسان وتجنب كلمات القبح والسوء والبذاءة ، لما لها من دور تخريبي للعلاقات بين أفراد المجتمع ، وتنقض الغرض للدين الحنيف من ائتلاف النفوس واجتماعهم على قلب واحد ، فأي مودة تدوم أو احترام متبادل يبقى إذا استشعر الفرد مشاعر السوء والنبذ والكراهية من الآخر ، وذلك بسبب ما تلفظ به من شتم أو نميمة قد بذرت روح البغضاء وأدت إلى الخصومات ، وكلمة الفتنة يؤسس لها حقود فينشر كلام السوء ويبلغ كل واحد بما يقوله الآخر عنه من كلام سيئ، فيشعل فتيل المشاحنات والاحتراب الاجتماعي ويبدد خيوط الثقة والتعاون!

أمير المؤمنين (ع) يدعو إلى توحيد الكلام والفعل ليصُبّا في مجرى الإنتاج والمخرجات النافعة ، وهذا ما يستوجب منا تحمل مسؤولية الكلمة وزنتها قبل أن نتفوه بها ، فحينها سيترتب عليها أثر نحمل تبعاته ونحن في حل من ذلك إن كان سيئًا بأن نرقب وندقق في الكلمة ، حتى لا نتحول شيئًا فشيئًا إلى فئة المنافقين الذين لا يقيمون وزنًا للكلمة بل ويعتبرونها سلاحًا ومخرجًا لهم من أي مأزق يقعون فيه ، فالمنافق يكذب ويخلف عهوده ووعوده لأنه – ببساطة – لما عقدها لم يكن يحمل في ذهنه تنفيذها بل كانت مجرد ممر لمصالحه الضيقة ، والبعض قد لا يكون منافقًا ولكنه لا يمتلك همة عالية وإرادة قوية يستبان أثرها في قوة كلمته ووعده ، فيطلق العنان لكلمته ووعده وهو لا يعرف المسؤوليات التي تقع عليه حينئذ ، ولذا نقع في خطأ تربوي عندما نرى المخرج من إلحاح أطفالنا بطلب شيء معين بأن نعده من أجل إسكاته فقط ، مع علمنا بأننا لن نفعل شيئًا من أجله فهذا يعلمه طريق الكذب والتحايل مستقبلًا.



error: المحتوي محمي