حكايات الأجيال.. هل تموت مع أهلها؟!

صغيرًا أحببتُ قراءة القصص والروايات، وكان الوالد – رحمه الله – في أوقات الراحة والقيلولة يقص علينا – أنا وإخوتي – ما سمعه وشاهده من تاريخ الفترة التي عاشها في جزيرة تاروت – حيث يعيش – والقطيف وما حولها من تحولات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة رآها. كنا نسمع ما يحكيه من تاريخ ببساطة؛ عن البحر وصيد اللؤلؤ ومن مات وغرق في البحر، كل ذلك دون انشغال! حكايات من شاهد عيان حيّ رأى الحوادثَ بعينه وسمعها من ثقة تتعب ولا تجدها في صحيفةٍ أو كتاب، وفيها وجهة نظر شخصية عن جيلٍ انقرض عن بكرة أبيه.

تمنيت أن رأيتُ أحد أجدادي – لأمي أو أبي – لأسمع منهم المزيد ولكنهم ماتوا دون أن أراهم. أدركت أن هذه الحكايات تعبّر عن وصلات تاريخيّة نادرة لم أكتبها أو أدوّنها لأنني لم أستطع؛ كنت شابًّا منشغلًا بأمور الشباب – دراسة وسفر وعمل – وعندما وعيت أهمية التدوين توفي والدي رحمه الله!

على عكس ذلك لا أجد الرغبة في الأبناء ولا الأحفاد في الاهتمام بالفترة التي عشتها قبلهم! فترة نحو 50 سنة فيها الكثير مما لم يروه! وأظن أن أغلب أبناء وبنات هذا الجيل منشغلون تمامًا عن حكايات الآباء والأجداد، ما يخلق فجوة بين ذاكرة الأجيال!

يبدو الأمر طبيعيًا جدًّا أن تكون فجوة بيننا بسبب الطفرات الكبرى؛ التقنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والسياسيّة، وأثر تلك الطفرات على طريقة تفكير الجيل الناشئ في حضرة الأشياء التي تملأ أوقاتهم وتزهدهم في حكاياتِ وذكريات آبائهم وأجدادهم، “المملّة” في عيونهم، مقارنة بما تعرضه تقنيات التسلية والتواصل!

يقول المفسرون في قوله تعالى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي عندما وصل إسماعيل عليه السلام إلى مرحلةٍ من العمر يستطيع فيها السعي وبذلَ الجهد مع والده إبراهيم عليه السلام في مختلف أمور الحياة وإعانته على أموره. مرحلة تُثلج قلبَ كل أب يرى ابنه يصاحبه ويصَادقه ويحب أن يسمع حكاياه!

فراغ الصحبة والخبرة خسرها الأبناء والأحفاد – ذكورًا وإناثًا – واستعاضوا عنها بصحبة افتراضية وصحبة من ليسوا أهلًا لها فجاءتهم المتاعب تترى! في هذا السياق قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيتَ أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلا فاضرب على جنبه، فقد أعذرتَ إلى الله”؛ إحدى وعشرون سنة قبل أن يصل إليه غيرك!

ألف تحية لمن يحرص على هذه الصحبة ويستفيد منها من الجيل الصاعد! وألف تحية لمن يرغّب الأبناء والحفدة في صحبته ويبعدهم عن صحبة الأفاعي التي تنفث السموم القاتلة. ويقينًا من لا يعرف ماضيه لا يفهم حاضره!



error: المحتوي محمي