من البحاري.. رواية «عائدون من الغرق» لـ موسى الثّنيان تتنافس على جائزة كنفاني الروائية

دائمًا تأتي بعض الأشياء، التي لم تكن تتوقع حدوثها اليوم، وتنتظرها في الغد في ابتعاد مسافاته، مُمارسًا الكثير من التّجارب، التي تُخولك تباعًا إلى نيلها، وبلوغ مرامك الذي تنتظر أن يُشرق، وتتكلل جُهودك بالأجمل من الثمار اليانعات.

هذا ما حدث بالفعل مع القاص والرّوائي موسى إبراهيم الثنيان، المُنحدر من بلدة البحاري مع باكورة أعماله الرّوائية التي عنونها بـ”العائدون من الغرق”، الصادرة عن نادي أدبي الشمال، بالتعاون مع دار الانتشار في 120 صفحة، بدخوله ضمن قائمة المُنافسة على جائزة غسان كنفاني للرواية العربية، التابعة لوزارة الثقافة الفلسطينية في دورتها الثانية عام 2023، ضمن 14 مُنافسًا في القائمة الطويلة من مُختلف الدول العربية.

الرواية التاريخية
تتجه رواية “العائدون من الغرق” في حبكتها الدّرامية إلى استشراف التاريخ، والوقوف في تلك الحقبة الزمنية، وتسليط الضوء على بعض ما كان يربط أهلها، ومن أثرت عليه الحرب في الجانب الاقتصادي، لتأتي الرّواية سياقًا تنتمي إلى الرّواية التاريخية.

وعن سُؤالنا فيما يخص الإشكالية التي تُثار حول الرواية التاريخية، من حيث واقعية الأحداث، والأشخاص المُتخيلة، وماهية التوثيق بينهما في مُعالجة أدبية سردية ذات دلالة ثقافية؟، يُجيب الثنيان: “للرّواية التاريخية مسارات ومدارس عدة، منها بعض الرّوائيين، يُحافظ على الحدث التاريخي، والقضايا الكبرى التي حدثت، بعد ذلك يُنشئ الكاتب شخصياته بحسب المُعطى التاريخي لها”.

وأردف: “قد يستعين كاتب الرّواية بشخصيات حقيقية، ويُحضرها في مسرح الأحداث، ليستفيد منها؛ لإثارة ما يُريد طرحه من قضايا بأسلوب مُوارب حينًا، وصريح حينًا آخر”، مُضيفًا: “وقد يُحور الكاتب الأحداث، ويُضيف عليها من تخيلاته، وهناك تخرج الرواية من كونها تاريخية إلى سردية مُتخيلة”.

وقال: “إنَّ التاريخ خصب للغاية، ليُلقي بظلاله على الواقع المُعاش، ولطالما رأينا التاريخ يُعيد نفسه بأحداثه وشخصياته في أشكال أخرى”.

انعكاس ونهاية
وعن روايته “العائدون مع الغرق”، أوضح أنه أراد توثيق فترة نهايات الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات الميلادية، ورصد انعكاس الحرب على الوضع الاقتصادي والتّحولات الاجتماعية والاقتصادية في تلك الفترة، بالإضافة إلى علاقة البدو أهل عنك حاليًا بأهل الحضر، والمزاوجة بين بيئة الصحراء، وبيئة البحر، وبين الرّبابة والمواويل، وعلاقة المرأة بالماء، التي بدت مُتأزمة أحيانًا، ووثيقة أحيانًا أخرى.

وأضاف أنَّ علاقة أهل القطيف بأهل عنك في تلك الأزمنة، تربطها علاقات وطيدة، فكان من جُملتها أن يُودع أهل البدو أماناتهم لدى أهل القطيف بحكم تنقلهم في الصحراء في فترة الربيع.

وقال: “إنَّ الحدث يقول إنَّه في أثناء الحرب حدث شُح في السّلع، فينشئ الكاتب شخصيات تُمثل ذلك الجوع والفقر الذي عاشته، وهذا ما مثلته عائلة الحاج علي في الرّواية، وعن علاقة أهل البدو بأهل واحة القطيف، تلك العلاقات المُتبادلة القائمة على الثقة، كما تشرحها الرواية دراميًا”.

وأردف: “بل هناك ما هو أكبر من ذلك ففي عهد الدولة العثمانية، كان أهل القطيف، يُسجلون أموالهم وعقاراتهم باسم شخص من أهل عنك، كلّ ذلك يشي لنا بالثقة المُطلقة، وتلك التعاملات التي تعد من صميم حياتهم، وهذا ما استفدته مما نشره المُحقق والشاعر السّيد عدنان العوامي من وثائق، ومما استفدته من معلومات من مصادر شفاهية عايشوا هذه التعاملات حتى السبعينيات الميلادية”، مُضيفًا “لكن في الرّواية كان هنالك صراع درامي مُغاير ما بين غنّام والحاج علي، للوصول إلى هذه العلاقة ضمنيًا، لما يتطلبه العمل الرّوائي من الجانب التّخيلي، والتمويه الدّرامي”.

زمن البطاقة
وحول سُؤالنا لما ألمحت إليه الرّواية عن زمن البطاقة، وما يُتناقل عن موت الناس في تلك الحقبة بسبب الجوع الذي ألم بهم، فهل هذا صحيح، أم هو تخيل استدعته أحداث الحبكة الرّوائية؟

أجاب الثنيان: في القطيف هذا لا يحدث، ذلك لأنَّ القطيف، هي عبارة عن واحة غنية بالمحاصيل الزراعية، وهي تطلّ على البحر من جهة ثانية، إلا هذا بطبيعة الحال لن يُغطي جميع المنطقة بسبب شُح المواد الغذائية الاستهلاكية، كالدّقيق -على سبيل المثال-، بسبب الحرب، فقد أحجمت السّفن التجارية عن دخول مياه الخليج، وأصبح هناك إقبال جُنوني على السّلع، ومن هنا تمّ تشكيل لجنة تُنظم عملية الشراء، وقامت بتوزيع البطاقات كلّ بحسب عدد عائلته.

جُغرافية النّقد
وعرجنا في حديثنا عن النّقد الأدبي في القطيف، وكيف يجده من خلال مسيرته الكتابية، واطلاعه على ما ينتج من أعمال كتابية، وما تحتضنها الأمسيات الثقافية والأدبية، ليُجيب بثقة العارف: “بداية أحب التنويه بأنَّ النّقد لا يمكن حصره ضمن جُغرافية معينة، فإنَّ هناك الكثير من النّقاد في الوطن العربي تناولوا أعمالًا لأدباء هم من محافظة القطيف”.

وتابع: “في القطيف، يُوجد نُقاد، لكنّهم قلّة، لذا بطبيعة الحال ستكون الحركة النّقدية بطيئة، مما سيجعلهم انتقائيين في اختيار النّصوص، لنقدها”.

وأضاف: “في المُقابل هناك النّاقد المُوازي، أقصد بذلك أولئك الذين لم يحصلوا على شهادات أكاديمية في النّقد، لكنّهم يمتلكون حسًا نقديًا عاليًا لتذوق النّصوص، والقُدرة على تحليلها، وتلمس جمالياتها، ولو بمُرور سريع، مُؤكدًا: “هؤلاء هم من القُراء النّخبويون، وهم بلا ريب لهم الأثر في تحريك السّاحة الأدبية، وبعث الحياة فيها”.

بداية كاتب
يقُول الثنيان عن بداية مشواره الكتابي، والحدث المُفجع، والمُفرح الذي رافق روايته البكر “العائدون من الغرق: “بصراحة ربما أنا أعد نفسي محظوظًا في مسيرتي الأدبية، فإنَّه مُنذ بداياتي لقيت الدّعم من أحد أقربائي، والأستاذ علي صالح الثنيان، فهو أول من سعى كي لا ينطفئ وهج الكتابة لديّ، فكان دوره يقتصر على تشجيعه لي، ودعوته المُلحة بالاستمرار في الكتابة دون توقف”.

وتابع: “هذا كان في بداية مشواري الأدبي، وفي مرحلة الثانوية تكوّنت في المدرسة جماعة أدبية، بعنوان: ملتقى أدبي للطلاب بقيادة الأستاذ جاسم آل سعيد، حيث كان لها الأثر في التطوير الفني لتجربتي الأدبية، وإثراء موهبتي، فقد كنّا نلتقي يومًا في الأسبوع في مكتبة المدرسة، ويُلقى كل واحد منّا ما كتبه، ويقُوم الأستاذ بمُناقدته، وفي المرحلة الجامعية، كان لدراستي في كلية الآداب في جامعة الملك سعود بالرياض الأثر في توسيع مداركي، ومفهومي للأدب واللّغة العربية بشكل عام، ووجود مكتبة الملك سلمان، التي كان لها الأثر الكبير إذ منحتني التعرف على كبار الكتاب في العالم العربي، وقراءة مُنتجهم الأدبي، إضافة إلى ذلك الأدب العالمي، وقراءة الكتب المعنية في نقد القصة والدّراسات النّقدية.

ثلاثة أرانب
ما قصة الأرنبين؟ بهذا السّؤال، وجه الرّوائي الثنيان لنا في «القطيف اليوم»، ليُدخلنا فيما وراء نسج روايته، وأجاب: “بعد الجامعة، التقيت بالأستاذ عبد الله الخميس -رحمه الله-، الذي ألهمني الكثير، وزودني بالكتب، والمراجع التي تتحدث عن كتابة القصة القصيرة، وكان هو أول من يطلع على نُصوصي القصصية قبل نشرها؛ لنقدها وتمحيصها، كان المُوجه الحنون، الحذق، الذي احتضن موهبتي، وألبسها كلماته، التي أراها منهجًا، لا يخلو من الحكمة في درب الإبداع”.

يسرد الثنيان حيثيات ما قبل بزوغ روايته، تحديدًا الفترة، التي قضاها مع رفيقه، سفينه، الذي من خلاله أبصر زُرقة البحر، وشمّ رائحة الغيمات، وتلمس عنفوان البحارة، وماء البحر، ينسكب على ملامحهم، عبر ابتسامة، إن شعرت بها لا تنساها إطلاقًا.

يقُول: هكذا حالك عندما تتحدث عن عزيز فارق الحياة، ولكنّه بكلّه يسكن وجدانك وفكرك، وذكرياتك معه لا تجف، تظلّ، كجدول: “لي معه حكاية خاصة مع رواية “العائدون من الغرق”، التي أسميتها “حكاية الأرانب الثلاثة”، في بداية الشهقة الأولى من البوح”.

وتابع: “حين عرضت عليه فكرة رواية “العائدون من الغرق”، والذي كان له الفضل في وضع الحجر الأساس لهذا، كنت قد طرحت عليه إضافة بعض الموضوعات فقال لي: قيل إنَّ صيادًا قد طارد أرنبين فلا هو ظفر بهذا ولا ذاك”، مُبينًا أنَّه أراد بخبرته أن يهتم بموضوع مُحدد، كي لا يحدث قصورًا، ويفلت منه خيط السرد في باقي الموضوعات.

وأضاف: “كان يخشى أن أفشل في أول مشروع لي في كتابة رواية، لكنّي حاولت أن أبرهن له عكس ذلك، َوأن الرواية تتسع لذلك، وأنّي قادر على مُلاحقة أرنبين، بل زدت على ذلك أرنبا ثالثًا، حيث كتبتها على الرغم من قصرها عبر ثلاثة خُطوط درامية، تتلاقى، وتفترق في ثلاثة فُصول”.

وقال: “أصابه المرض، وفي أثناء ذلك وقعنا في قلق شديد؛ لأنَّ حالته الصحية، كانت ما بين مد وجزر، وكنت أثناءها عاكفًا على كتابة الرّاوية، وأتشوق لخروجه من مأساة مرضه، لكي يرى أنّي -على الأقل من وجه نظري-، ظفرت بثلاثة أرانب، وليس أرنبين، لكنَّ الموت لم يُمهله، فقد اختاره الله قبل ذلك -رحمه الله تعالى-“.

يذكر أن الكاتب موسى إبراهيم الثنيان خريج كلية الآداب في جامعة الملك سعود بالرياض، صدر له مجموعة قصصية، بعنوان: قيامة الورق عام 2014م، وسوابيط مُظلمة عام 2021م، ورواية “العائدون من الغرق”، عام 2023م.




error: المحتوي محمي