قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} [طه الآية 124].
تحديد مرتكزات وأساسيات السعادة وراحة البال في الحياة يختلف بحسب الرؤى والاتجاهات المختلفة، فهناك من يربطها بالعامل المادي البحت فقط، وعلى هذا يكون مصدر هنائه وبهجته هو تحصيل مستلزمات الحياة الكريمة وأبواب الرفاهة، وأما بالنسبة لذلك المحتاج الفقير – بزعمه – فلا يمكنه أن يكون متحصلًا للسعادة والراحة، كيف وهو يعاني الأمرين من صعوبة الحياة وتقشفها ويفتقر لأبسط مقومات الحياة المريحة، ولذا فأصحاب النظرة المادية من وجودنا يحددون معيارًا واحدًا يقسمون من خلاله الناس إلى غني سعيد وإلى بائس فقير لا حظ له من حظوظ الدنيا.
وهناك من يركز على جانب القدرات والمهارات التي يتمتع بها ويشعر بأنها جناح القوة والاقتدار في ساحة التتويج والنجاح، وبالتالي فإن افتقادها سيكون سببًا لتعاسة المرء وفقدانه للشعور براحة البال، مع أننا نجد اختراقًا لهذا التفسير للسعادة وراحة البال، فهناك من يملك من المواهب الشيء الكثير ولكن ذلك لم يكسبه الهدوء النفسي ولم يورثه طمأنينة القلب، بل هو في وسط دوامة من القلق والتوتر والخوف من المستقبل المجهول الذي لا يعرف ما يخبئ له من مفاجآت، وهناك من يعيش حياة البساطة في فكره وقدراته ولكن الهدوء النفسي لا يغادر جنانه مع ما يمر به من صعوبات وظروف قاهرة، وهذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن هناك سرًا وعاملًا فاعلًا يسهم في تحصيل الراحة القلبية والهدوء النفسي في وسط لجج الحياة ومتاعبها وأزماتها وتعقيد مشهدها، هذا الأمر لا يتعلق بشيء من حولنا بل هو كامن في دواخلنا نغفل عنه فضلًا عن تنميته حتى يتلاشى تأثيره على مجريات حياتنا بنحو إيجابي.
ما أشارت له الآية الكريمة هو الحاجة الروحية الملحّة والظمأ الذي يعاني منه الإنسان ويسبب له حالة القلق والهواجس من الحاضر والمستقبل، وبالتأكيد فإن مرض العصر كما أشار لذلك علماء التربية والنفس هو القلق وهواجس المستقبل وما يقع جراءه من تأثير سلبي على مجريات حياة الإنسان وتكبيله بتلك المخاوف، والحصول على أسباب القوة المادية وتنمية المهارات والقدرات الفكرية والبدنية هي أسباب حقيقية ممهدة لراحة النفس، ولكن لا ينبغي نسيان أن الإنسان مكون من روح وبدن وتغذية حاجات جهة دون الأخرى يعني خللًا ونقصًا عنده، فمهما أوتي من قدرات إبداعية ونفسه خاوية من مشاعر الطمأنينة والهدوء فإنه لن ينعم بالسعادة وسيبقى في دائرة الاضطراب والتوتر المستمر.
التغذية الروحية تستقى من منابع ذكر الله تعالى ومناجاته، والتي تقوي ثقة العبد بتدبير الله تعالى لأموره وفي كل تقلباتها هي خير ومصلحة له، وهذا الهدوء النفسي تجاه حوادث الأيام في رخائها وضرائها ناجم عن الإيمان والأمل بالله تعالى واليقين بأن مجاري الأمور واتجاهاتها بيد الله تعالى، وهذا الزاد الروحي ينعكس على حالة الطمأنينة التي يتحلى بها في قراراته وعلاقاته ومواقفه، فإذا ما فوجئ الإنسان بخبر أو حدث سيئ فإن المواقف بين المؤمن وغيره تتباين، وسبب الاختلاف هو أن المؤمن يعتقد أنها محطة اختبار إلهي وعليه الأخذ بزمام الأمور فكرًا وعملًا حتى يتجاوز تلك المرحلة، ومهما أصابه من ألم فإنه يتحمل المتاعب ويصبر على الضراء، وكلما عانق محراب الدعاء والمناجاة اكتسب قوة في مواجهة الصعاب، وخصوصًا إذا تأمّل في أحوال وقصص الأنبياء (ع) والصالحين، ممن بقيت جنانهم هادئة وبعيدة عن الانفعال السلبي مهما كانت موجة التحديات عالية وصعبة، فيتجلد ويستقوي مستعينًا بجناح الصبر والحالة الإيمانية والروحية التي أورثته هدوء النفس في وسط لجج الحياة.
وأما المصاب بالخواء الروحي فأولى النتائج لمداهمة هجمات الزمن عليه هو سقوطه وضعفه وتداعي قواه أمامها، ويتملكه الخوف من استمرار تلك الهجمة وتداعياتها على أيامه القادمة، فيصاب باليأس من القدرة على تجاوزها ويهل الاكتئاب والرهاب عليه من المستقبل المجهول، وهذا المصاب بالخواء الروحي متى ما سلب شيئًا من نعم الله تعالى عليه كالصحة أو المال أو مني بالإخفاق في إحدى مراحل تحقيق أهدافه، فإنه يصبح عاجزًا وخائفًا من تداعيات وجوده الحالي المشابه لريشة في مهب الريح تأخذها بعيدًا.