أعيديني إليَّ.. «1»

بعد مرور أيام على صراعٍ كاد أن يقتلني من نفسي، وإلى نفسي، مازالت أحداث ذلك اليوم أبصرها جيدًا، وأستطيع تذكر شُعوره الجاف المُؤلم؛ الانطفاء بكلّ مكان، الألوان باهتة، واللّيل طويل، كدت أجزم هُنا بأنَّ يومي كلّه ليل.

في ذلك اليوم ارتميت على سريري، ضممت وسادتي إليّ، لكم انتابتني اللّهفة، فوددت لو أنَّها كانت أحدًا أحبه، يمنحني الارتماء إليه في أيّ وقت، ولأي سبب، كان.

ارتميت في تلك اللّيلة بكلّ اللاشُعور، لأبكي لساعات طوال مُؤلمة، كنت أشتكي للجُدران من غُربة مشاعري وأحاسيسي غير المفهومة بالنّسبة لي أكثر من الآخرين تحديدًا منه، حتى غفت عيناي في وقت غير معروف، لا ينتمي إلى عقارب الساعة.

استيقظتُ في الصباح الباكر، انتشلتُ نفسي من سريري البائس المُحطم، مُضطرًا لأواجه العالم من جديد بابتسامة زائفة، خلفها أبواب مُحطّمة، وأرض قاحلة السنابل، والماء العذب.

نظرتُ في المرآة قليلًا، رأيت وجهًا لا يُشبهني رغم أن ملامحي ذاتها، ضعيف البُنية، مُتوسط القامة، شعري يكاد أن يُلامس نهاية رقبتي، عيناي مملوحتان أسمر البشرة عربي الهيئة.

استحممتُ، وارتديت ملابسي، خرجت من منزلي مُتقلدًا وجهًا لا يُشبهني، بالأمس أخذتُ شهيقًا، عميقًا أخرجته بزفير مُتقطع. ذهبت إلى مقر عملي مشيًا على الأقدام، لعلّي أجدني في الخُطوات، أو بين الغيوم، أرى وجهًا، يُشبهني، وأناغيه.

كان يومًا غريبًا، رأيت الأزهار لأول مرة بجانب مقر عملي، سمعتُ أصوات العصافير تتعالى، رفعت عيناي للسماء فرأيتها زرقاء مُمتلئة بالصّفاء، لأول مرة ألاحظ لونها!

لم أكترث، ظننت أنَّه يوم عادي رغم شُكوكي حوله، أقطع الممرات بلا حسّ، شيء ما في داخلي، يدعوني لأستمر مشيًا، التقيت صدفة صديق طُفولتي الذي جمعتني الأيام معه، حتى هنا في عملي، ليكتب لنا القدر ألا نفترق، استمررنا بالمُضي قدمًا معًا، حتى رأيتك جالسة في مكتبكِ عندما مررت به، لأصل إلى مكتبي المُجاور له، كنتِ ترتدين طوقًا لامعًا، مكتوبًا فيه شيئًا لم أكترث له، أطلت النّظر فيك حتى نبهني صديقي قائلًا: ماذا بك؟ أبعد عينيك عنها، ستأكلها بنظراتك.

هاه! حسنًا، لا شيء، لنُكمل المسير معًا.

كان صديقي يتحدث عن ظُروفه، عن التزاماته ومشاغله، يُدخلني في آهاته، يتنفس في بوحه لي، ولكنّي أبتسم!، ابتسمت، وبعد مُدة ليست بالقليلة من الألم حتى إنّني نسيت كيف أبتسم! لكنَّه خاطبني قائلًا
أراك تبتسم للهواء، يا أخ ماذا بك؟!

أحدثك عن مشاكلي، وأنت تبتسم، أين عقلك؟!

لا عليك، تذكرت شيئًا مُضحكًا، فأخذني باتجاه الغرق فيه، فابتسمت لا شُعوريًا.

ما هو؟

استوقفني الزمن لوهلة، فعلًا ماهو الشيء الذي جعلني ابتسم! مررتِ من أمامي، سرقتِ فؤادي بنظرة عفوية منكِ.

أخذت شهيقًا ورددتهُ تامًا لأول مرة دون أن ينقطع الهواء في جوفي، تعمدت أن أطلب من صديقي مُجاورتي في المشي عكس اتجاهكِ، لتُصادفني عيناكِ في نهاية الحلقة.

عدت يومها لبيتي، تناولت وجبة غدائي لأول مرة مُنذ زمن طويل، سمعت الأغاني والمُوسيقى الراقصة لأول مرة مُنذ وقت طويل.

حادثت أصدقائي، أنجزت أعمالي، وذهبت للنوم بوجه مُبتسم، حتى وسادتي شعرت أنَّها وددت لو تنطق، لتقُول لي”ما بالك يا مختل بالأمسِ تبكي حزنًا وتدمرًا واليوم تبدو شخصًا آخر”!

استيقظت من نومي فجأة قمت، واحتسيت كوب قهوتي التي هجرتها مُنذ زمن، وكان طعمها يُشبه المرة الأولى التي التقيت فيها بكِ، رائعًا مليئًا بالحياة.

في اليوم التالي ارتديت معطفًا من الجينز أبيض اللّون، اقتنيته ذات فرح، مع حذائي الذي يحمل علامة تجارية رياضية معروفة، بعدما اعتاد جسدي على لبس الأسود لمدة من الزمن، بخخت عطرًا شرقيًا، وذهبت لعلّي التقيكِ!

كنت أعتقد أنّي سأبقى أسيرًا لنظراتكِ، أنظر لك من بعد مسافة مُتلهفًا، أتوق للحديث معكِ، وسماع صوتكِ الدّافئ المُلهم، بعدما سرقتك في خيالي لأيام، احتضنتكِ وقبلتكِ، وحادثتكِ في أحلامي.

وفي اللّقاء الأول، العابر على امتداد الشّوق إليك، أخبرتني أنّك أحببت عطري الشّرقي، الذي يأخذ رائحته من أنفاسك التي احتوتني في الاجتماع هذا الصبح، كنت أعرف أنّي سأراك، ولكن كيف، وأين لا أعلم، كان قلبي يهمس لي أنّي سأعيشكِ اليوم، كنت سعيدًا لدرجة أنَّ الابتسامة لم تُفارق شفتيَّ.

ذهبت إلى حُجرة الاجتماع، تحملني الخُطوات بكلّ تفاؤل كضوء الشّمس، يُشرق على الأزهار، لتفُوح بالحياة، لم يخطر في خلدي أنّي سأراكِ فيه، بأنّي سأجلس بقُربكِ، أتأمل ملامحكِ، أصغي إلى مُداخلاتك، أتنفس عبير أنفاسكِ، الآن، أغرق فيكِ بلغة الصّمت.

لغة لا يفهمها سوانا، أنا وأنت تجتاحها نظراتنا وابتساماتنا التي تدوي بصرخاتها وأنينها.

كنَّا، أنا وأنتِ تائهين، كلّ منَّا يبحث عن رُوح تحتويه، ليحتوينا اجتماع غير مُخطط له، كانت قلوبنا حين ذلك تجري لاحتضان بعضها، إلى لمس أصابعنا، إلى ارتعاش عينيك في عينيَّ، لم أتقن الإصغاء إلى الكلمات، الحاضرون أراهم يتحدثون، إلا أنّي كنت هاربًا مني لعينيكِ.

“وطنكِ”!

وطنكِ، هو وطني الأم، الأول، قضيتي التي أقرأها
من فضلك لحظة، أنتِ من؟!

نعم.

يا للصُدفة الجميلة أنكِ من وطني الأم! ظننتكِ أجنبية
سألتيني بعدما قلت أنّني ظننتكِ أجنبية.

لماذا؟

عيناكِ الخضراوتين، وشعركِ الكستنائي، نظرتُ إليكِ، أتأملكِ، حتى احمرار وجنتيكِ، أشعرني بكِ أجنبية، كطفلة شقراء، تلهو بدميتها على العُشب.

ما بهِ؟

لونهُ، يُحيرني، تُغازله الشّمس حتى يشقّر، تميلين للباس الأجنبي الذي يُبرز تفاصيلكِ، اهٍ ما أحلاكِ.

إنَّها بعض مما جعلني أراكِ أجنبية.

احمّرت وجنتيها في خجل.

لا.

يُحدث نفسه، لماذا لا أطلب رقم هاتفها النّقال؟

استجمع قواه، وخاطبها بهمس: عُمومًا سأكون ذا حظ لو أكملتي النّقاش معي، سأعطيكِ رقم هاتفي النّقال، بعد إذنكِ طبعًا، وإذا مُمكن تعطيني رقم هاتفك النّقال، لأتأكد أنَّه أنت عندما تُكلميني.

بعد انتهاء العمل عدتُ قاصدًا المنزل مشيًا على الأقدام، كنت فرحًا أدندن الكلمات على سيمفونية هادئة طوال الطريق.

كانت عقارب السّاعة، تُشير إلى العاشرة مساء، كان هاتفي النّقال في يديَّ، أترقبها، ما أصعب لحظات الانتظار، وأخيرًا ازدادت نبضات قلبي في الخفقان، تبادلنا الحديث، جاء شيقًا، أخبرتني أنَّ لونكِ المُفضل هو الأسود والوردي، وأنكِ تعشقين الشّاعر نزار قباني، وتُحبين تغيير لون شعركِ كل فترة، لتُجددين طلّتك في المرآة، وأنكِ الأصغر بين أخواتكِ.

وكانت المُفاجأة التي جعلتني أفكر مليًا، أجبت حين سألتكِ عن موقع منزلكِ، أخبرتني بأنَّكِ جارتنا!

في ذلك اليوم، وبعد الانتهاء من حديثنا، خرجت، وكلي شوق لأنظر لشارعينا بكلّ الحُب كأنّي أبصره لأول مرة، خليط من المشاعر المُضاربة، تحتويني لا أستطيع توصيفها أو التعبير عنها.

في وقتها وضعت يدي على قلبي رأيته ينبض، قد يبدو أمرًا اعتياديًا لكنّني لأول مرة أحسّ به ينبضُ حياة.



error: المحتوي محمي