تعليقًا على تاروت أقدم أم أريحا

أشاركك الرأي أخي الأستاذ أزهر التوبي أنه من المفيد ضبط الحقائق والمصطلحات والأرقام، والأكثر فائدة أن نراعي التاريخ الأنثروبولوجي والجيني والآركيولوجي الموثق.

تعليقي هنا لن يتناول تسمية تاروت، وبالتأكيد لن أتطرق لأحداث أربطها بالروايات الدينية، حيث قناعتي بصعوبة ضبط الرواية في سرديتها وهيكليتها وفق السياق الكرونولوجي الزمني. وسوف أركز على نواحٍ، منها ما يخص عمر الكنعانية، حيث ذكرت في مقالك تواريخ تعود إلى ما قبل 8000 سنة، وتحدثت عن السامية التي بحسب رأيك أنها نشأت في شرق شبه الجزيرة.

أولًا، دعنا نتذاكر معًا، وحسب الآثار المرصودة عن الهوية الثقافية لشرق شبه الجزيرة قبل 8000 سنة، لنجد أن هذه المنطقة وفي تلك الفترة سادتها آثار آركيولوجية تنسب لثقافة العبيد التي بدأت في الظهور قبل عشرة آلاف سنة، وانتهت مع انتهاء العصر الحجري الأخير قرابة الـ5700 سنة الماضية. والملفت أننا لا نزال نجهل هويتها اللغوية. وهو أمر طبيعي حيث خلو هذه الآثار من التدوين. وهو أيضًا طبيعي لأن التدوين، وكما يعلم الجميع، لم يبدأ إلا مع سومر بعد هذا التاريخ بزهاء 2500 عام. ففي بحر الألف الرابع قبل الميلاد، ومع صعود سومر وبنائها لأول الحضارات الإنسانية كان التدوين أهم العناصر التي سهلت عليها إنجاز الحضارة.

كما أن سومر ذاتها التي يعود قيامها إلى حدود الأربعة آلاف سنة قبل الميلاد، لم تكن سامية الهوية، ولا يزال الجدل قائمًا بين اللغويين حول هيكليتها اللغوية التي لا يمكن نسبتها إلى أي من المجموعات اللغوية المعروفة اليوم، فلا هي متوافقة مع الهيكلية الهندوأوروبية، ولا السامية. وحيث يحاول البعض منهم نسبتها للدرافيدية التي توارت في منطقتنا، وانحسر وجودها في شبه القارة الهندية. أما البعض الآخر فيعدها هوية لغوية منقرضة. على أني لا أستبعد علاقة ما بينها وبين لغات الثقافات العبيدية ولأسباب يطول شرحها.

ورغم اتفاقي معك بهجرة مرحلية لشعوب شبه سامية من شرق شبه الجزيرة شمالًا نحو الجزيرة الفراتية. لكن هذه الهجرة أتت في وقت مـتأخر نسبيًا قد يزيد قليلًا على حدود الألف الثاني قبل الميلاد، حيث تشكلت منها القوى التي ناوأت السومريين، وتمثلت بالأكاديين الذين انتهوا أخيرًا بإقامة كيانات آشور وبابل، وأسهموا مع مهاجرين جدد أتوا من جبال زاغاروس والقوقاز تميزهم هويات هندوأوروبية، في تشكيل هوية متداخلة الثقافات تمثلت في محور حديثنا، وهي السامية.

فالسامية، وهي ثقافة وليست عرقًا، يجري عليها ما يجري على الثقافات التي تتعرض لديناميات التأثير والاحتكاك، فينتج عنها هويات هجينة هي محصلة هذه الثقافات المتداخلة.

ما أقوله هو أني أرجح أن السامية تشكلت في فترة شهدت انزياح الثقل الحضاري من محيط الجزيرة الفراتية نحو شواطئ الشام على المتوسط، وأن ذلك تم في منتصف عصر البرونز مع بداية الألف الثانية قبل الميلاد، ومنها، ومع ازدهار طرق تجارة المحيط الهندي مع كيانات البحر المتوسط، تمددت هذه الثقافة فشملت إضافة إلى الشام والعراق، أغلب مناطق شبه الجزيرة.

أما أريحا وعموم شواطئ الشام على المتوسط، فقد شكلت الشعاع الحضاري الذي ظل العنصر الأكثر فاعلية في تغيير ديموغرافيا شبه الجزيرة منذ بدء تراجع المد الجليدي الأخير، وانطلاقة الفترة المطيرة قرابة الخمسة عشر ألف سنة الماضية، وحتى حلول الفترة الهلنستية التي مع انتهائها في مطلع القرن الثاني الميلادي بدأت موجات قبائل ربيعة بالوفود إلى إقليم البحرين من شرق شبه الجزيرة، حاملة معها ثقافة سامية تبلورت حديثًا، وتميّزت بملامح لغوية هي ما يعرف اليوم باللهجات البحرانية.

وكما أن تاروت قديمة، وهي واقعًا أقدم مما يتم تداوله بكثير ولكنه حديث ليوم آخر، فأريحا أيضًا قديمة، ومن جوارها انطلقت الثقافات الكبارية قبل نحو 23 ألف سنة، ومن ثم وريثتها النطوفية قبل 14 ألف سنة، فامتدت رقعتيهما، وخصوصًا تلك الأخيرة، في عموم الشام والعراق ونزولًا في شبه الجزيرة. وظني أن العبيد التي تنتشر آثار ثقافاتها بغزارة في منطقتنا وتشمل تاروت ذاتها، ما هي سوى نتاج لتمدد الثقافات النطوفية.



error: المحتوي محمي