كثير من الآباء صنعوا مستقبل أبنائهم من الألقاب التي أطلقوها عليهم؛ كمناداة أحد الأبناء بالدكتور، والآخر بالمهندس، والثالث بالمحامي والرابع بالشيخ، وهكذا يتشرب أولئك الأبناء الفكرة التي ظل الوالدان يزرعانها في عقول فلذات أكبادهم، فيتجهون طوال مسيرتهم الدراسية حسب ذلك التوجه، إطلاق مثل تلك الألقاب للأبناء تعطيهم دافعًا إيجابيًا، لكن الجانب السلبي لهذا التوجه هو برمجة سلوك الطفل حتى يكبر، وقد يتعرض لضغوط دراسية ونفسية واجتماعية ومالية توقف ذلك التوجه.
معلوم أن مشوار التفوق والنجاح في أي نشاط إنساني محفوف بمشاق يذللها -بعد عون الله- قدر من الذكاء المهني، ثم العزم والثقة والعمل الدؤوب الذي لا يدركه أرق، ولا يحبطه يأس، هما ثمرة التحصيل الجاد والجهد المثابر والعزم الصادق وصولًا إلى الغاية المنشودة.
حينما يود الإنسان أن يضاعف دخله المالي، أو يُحسّن مستقبله، فأول ما يخطر بباله أن يضاعف الجهد الذي يبذله، ومع أن الجهد والعمل ركنان لازمان للتفوق والنجاح، إلا أنهما وحدهما لا يكفيان، فلا بد من أن تترافق مع قيمة أساسية مطلوبة هنا، وهي الاستقامة والخلق القويم، هذه هي عناصر النجاح الحقيقية، فمن سيئات العصر الذي نعيشه وتداعياته وتحدياته ضغط الحياة وقسوة الأيام التي غيرت قيمنا الدينية والأخلاقية وجلبت لنا الشرور والدمار، ولعل الذي يحكم أخلاقيات أديب أو عالم أو فنان أو طبيب على وجه الدقة هو تلك الاستقامة.. القلب الحيوي في كل المهن الإنسانية.
كان لا بدّ من هذا المدخل لمناقشة فكر سائد في مجتمعنا فيما يختص بموضوع شهادة الطب ولمن تمنح..! وكثيرون هم الداخلون إلى دنيا الطب.. لكن البالغين قمته قليل.. وقليل جدًا..! ذلك أن البارعين في الطب.. لا يجاوزون قنطرته إلا بعد أن تتحقق فيهم الاستقامة؛ الاستقامة بمعناها الأخلاقي العميق، ففيها النجاح والإبداع.
في مدرسة الطب أفرزت لنا فئات من الأطباء، منهم من تخرج من مدرسته نكرة لم يحقق في مهنته نجاحًا ولم يترك ذكرًا، وضاع في دوامة الحياة، التي يضيع فيها الطبيب وغير الطبيب، ومنهم من قصر على نيل إجازة الطب من قبيل التباهي والوجاهة، ومنهم من بات شغله الشاغل اقتناص الفرص لأغراض ومطامع شخصية، ومظاهر اجتماعية بمخلفاتها السطحية، وتخلَّوا عن ضمائرهم وأخلاقيات العمل والمواطنة، ومنهم المثابر الذي حصل على أعلى درجات التفوّق، متمكنًا وناجحًا، طور أسلوبه وعمل على الرقي بقدراته، وقد وضع نصب عينيه هدفًا يصل إليه، وهو مساعدة المرضى، ورفع معاناتهم، ومعنوياتهم، والتخفيف من آلامهم، والابتسامة في وجههم، لديه القبول والترحاب، فلا يشغله عنهم عبث، ولا يحوله لهو أو لعب، مثل هؤلاء الأطباء التي تميزت حياتهم بالعمل الدؤوب والاستقامة، لديهم السمعة الطيبة، هم الممتازون الأفذاذ المخلصون الذين نذروا أنفسهم لصالح الخير والتفاؤل والإبداع وكل القيم الجميلة، جعل الله في أفئدتهم كمًا كبيرًا من الرحمة والشفقة، الذين لا يرضون بأقل من الصيت البعيد، والشهرة المستفيضة.
هذه لمحة سريعة لكل ما أفرزته لنا مدرسة الطب، ولكن الذي يبقى من الجميع الطبيب الناصح الذي يملك عقلية مهنية وتقنية، وسجل مُشَرّف في احترام القيم الإنسانية والأخلاقية، اجتمعت لتكون طابعًا متميزًا ونموذجًا يحتذى، أعجبنا به أشد الإعجاب، ولم ينكر أنه شكل مدرسة قائمة بذاتها ونهجًا متميزًا للأجيال القادمة.
ليس هناك من يجادل في أننا لا نستطيع أن نسمح بدخول من يشاء إلى مدرسة الطب ولعل السبب في استثناء هذا التخصص هو خوف كل منا أن تلقي به الظروف في يد جراح من النوع الذي لا تتوفر فيه القدرة على الانضباط الفكري والأخلاقي والموهبة الفنية والمهنية التي تتلاءم مع إمكاناته وطاقاته، والملكات اللازمة لحقل تخصصه، يستطيع أن يجيد فيه ويبدع. عندما لا تتوفر في الطبيب الشروط والضوابط والحصانات اللازمة، ثم لا يكون أهلًا لذلك عقلًا وخلقًا وتأهيلًا، فينحرف عن الدرب السوي، ويهوى إلى قاع الفشل والإخفاق، وانطلاقًا من هذه الرؤية التي بمثابة المحصلة النهائية التي نتج عنها سلوك مدمر بسبب سوء اختيار التخصص غير الملائم لرغباته، فالطب ليس مجرد مادة علمية تسكب في عقول الطلبة بل هو معايشة يومية واحتكاك بالأتراب والأطباء، والرغبة الصادقة في العمل الطبي، والالتزام بآداب الأداء وضوابطه، وتكيف مع الجو الطبي بشكل عام، والطبيب بدون أن يمارس ليس طبيبًا، لأن مهنة الطب ليست مهنة يتم تعلمها عن طريق الكتب، كما أن وجود اللمسات الأكاديمية يعزز نوعية الخدمات الطبية بشكل كبير، فصارت مهمة الطبيب الأولى تشخيص المرض وتحديد الدواء، فتشخيص المرض نصف العلاج، ومن هنا فإن المعالج الناجح هو الذي يتعرف على حقيقة المشكلة قبل أن يقدم العلاج؛ إذ كيف يعالج الطبيب مرضًا لا يعرفه؟!
ولا شك أننا كمجتمع نبالغ في تقدير شهادة الطب إلى درجة أننا ندفع أبناءنا ونرغمهم على الدخول لميدان الطب، وإلى الاستماتة في الحصول عليها، كونها مظهرًا اجتماعيًا وشرفًا رفيعًا تسعد به العائلة، فمن حقهم أن يروا أبناءهم ناجحين وفي أفضل التخصصات بشرط ألا يكون ذلك جل همهم على حساب ميول فلذات أكبادهم ورغباتهم، لذلك في معظم الأحوال نوجه الأبناء ونشكل حياتهم ونحدد مسار دراستهم في اتجاه لا تخدم مصلحتهم، ولقد كنا ذات يوم ننتظر المعجزات على يد هؤلاء الخريجين، فإذا بنا نكتشف أنهم ليسوا من الكفاءات المطلوبة، فاستهتروا بالقيم والمُثل وأخلاقيات المهنة، وكانت النتيجة أنهم سقطوا في امتحان الطب، والواقع لو كان هدف دراسة الطب في نظري تزويد الطالب بالمعلومات والأرقام -ما أكثر المراجع والموسوعات والكتب المتضخمة التي تتسع لها المواقع الإلكترونية- بل تزويده بمهارة معينة في حقل تخصصه، لا يهم أن يلم دارس الطب بجميع القوانين والأنظمة ولكن المهم أن تتكون لديه خلال دراسته الملكة القانونية التي تمكنه من فهم القانون وتفسيره وتطبيقه، ولا يهم أن يستظهر طالب الطب جميع المصطلاحات الطبية ولكن المهم أن تنمي لديه المهارة اللازمة التي تمكنه في المستقبل من تشخيص الأمراض ومن متابعة التطورات العلمية الحديثة في ميدان الطب، وقد يتخرج الطبيب ولا يكاد يطمئن إلى مستقبل زاهر مرموق حتى يضع قدمه على مزالق الغواية، فإن لم يكن له من نفسه وإرادته عاصم، ضاع شر ضياع، وانتهى إلى شر نهاية، أو على الأقل إلى نهاية هي دون ما كان يطمع ويؤمل من سؤدد ونجاح. وبات شغله الشاغل رضا العائلة واقتناص الفرص لأغراض ومطامع شخصية، هو فقط يبحث عن الوجاهة الظاهرية، والنظرة المتعالية، وتحسين وضعه المادي والاجتماعي، والواقع أنه لو كان هذا هو الهدف من شهادة الطب لانتفت الحاجة إلى الطبيب!! والسؤال الذي يطرح نفسه: من الجدير بحمل لقب الطبيب؟ هل هو كل متخرج؟ فالجواب لا، إن الصدق والصراحة يقتضيان الاعتراف بأن لقب الطبيب أو الدكتور في نهاية الأمر ليس كل شيء، وأن حامل اللقب قد لا يكون أهلًا له، شئنا ذلك أم أبيناه، فجدارة حامل اللقب بلقبه أمر يحتاج إلى نَظَر، لذلك ينبغي أن نأخذ عدة أمور في الحسبان كالمعارف العلمية والمهارات المطلوبة والقدرات الإبداعية اللازمة لإصدار قرارات واعية وناضجة في مجال تخصصه وقبل كل ذلك الاستقامة بمعناها الأخلاقي العميق، حتى يستحق صاحبها اللقب الذي يحمله، فلقب طبيب أو استشاري أو دكتور ليس مكرمة أُسبغت على صاحبها، بل هي شهادة إثبات لقيَم علمية واحترافية معينة وملكات عقلية ملائمة.
هناك هوة سحيقة تفصل بين الطبيب والمريض ومن خلال هذه الهوة، تسلّكت طفيليات العبث إلى الفكر الصحي لتسيء إلينا، هُويّةً وسمعةً وتاريخيًا، وتشوّه قطاعنا الصحي، بل صرنا في بعض المواقف نشبه الغريق الذي يلتمس الخلاص ولو بشعرة يستلّها من جلد بعير!! فما أحوجنا اليوم قبل الغد للطبيب المخلص الثابت على الاستقامة! الطبيب الذي يسعى إلى الالتزام بأخلاقيات المهنة، ويقدم يد العون والمساعدة لمرضاه، ويكون التواضع والتأدب سمة أساسية يتسم بها، ويتحرر من الضغوط والأهواء والميول، ليصبح المنظار الذي يرى من خلاله المريض الحياة، وهؤلاء ندعو لهم بأن يزيد الله قدراتهم على الصبر والمثابرة.
هناك أطباء مِمّنْ يشار إليهم اليوم بالبنان منهم ما زال يعمل ويعطي ويبدع، ومنهم من تقاعد، تربطني بهم صلات أعتز بها وأحافظ عليها، وهم أثيرون على نفسي، منهم من تشرفتُ بالتعامل معه عبر مواقع متفرقة، فكان ِنعْمَ الطبيب أزهو به رأيًا وموقفًا.. كم نحن مدينون لسهركَ! وبذْلِكَ أيها الطبيب الناصح لبَّيتَ أفضل الواجبات الإنسانية، وشاعت خدماتكَ الطبية وما جناه المرضى من رعاية وعناية وثقة ممتازة، وسَمتْ روحكَ إلى أقصى ما تصل إليه الفضيلة، وفعلتَ الخير للخير نفسه.. نحن نعرف أنه حقيقة واقعة.. ولكن أيقال أن مثل هذا السلوك نابع من مزايا فاضلة أم دفعت إليه ضرورة الحياة؟
وأخيرًا، بلدنا لا يعاني من نقص في المواهب الطبية الشابة، فهي متوفرة وبكثرة ولله الحمد، ولكن المشكلة تكمن في أن هذه المواهب لا تجد القدوة الناصحة لتنطلق وتبدع.. نعم لدينا أطباء يملكون من القدرات والمقومات ما يؤهلهم لمواكبة التطور الطبي للقيام بدورهم المهني والإنساني والنهوض به، تلك الكفاءات العالية، والعقول المبدعة، والضمائر الحية أخلاقيًا ومهنيًا في هذا البلد المعطاء نتميز بها ونرفع رؤوسنا مباهين بها، هم مفخرتنا!!
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات