ما أكبر خطر يتربص بالإنسان طوال الوقت لكنّ الإنسان لا يهتم به؟ مشغول عنه ببهجة الحياة!
قد يخطر في بال القارئ الكريم والقارئة الكريمة أمرٌ آخر، أمّا ما قصدت الإشارة إليه فهو خطر الموت. ولكي تتأكد من فرضية نسياننا السريع لهذا الخطر ما عليك سوى ملاحظة المدة الزمنيّة القصيرة التي نتأثر بها ويصدمنا المشهد قبل أن نعود إلى سجايانا وكأنّ شيئًا لم يكن وحدثًا مهمًّا لم يحدث! على شفا القبر يتفقد المشيعون الساعةَ بين الفينة والأخرى، يستعجلون العودة إلى منازلهم وذويهم وبعضهم مشغول بحكايات الدنيا -الساحرة- مع الأصدقاء!
على حافة القبر؛ الهواء الذي نستنشقه يحمل رائحةَ الموت وأخبار الموتى، والتراب الذي ندوسه بأحذيتنا غير مكترثين هو بقايا لحم وعظم، كان حيًّا أسبوعًا أو شهرًا أو سنة أو سنوات وبعد لحظات ننسى!
مَن كانَ بَينَكَ في التُرابِ وَبَينَهُ
شِبرانِ فَهوَ في غايَةِ البُعدِ.
أما المتوفى فهو قد سكن في مسكنه الجديد؛ للتو انتهت آخر ساعة يرى فيها ضوءَ الشمس وبدأت أوّل ساعة يرى فيها الظلام؛ قبل هذه الساعة كان الموت أبعد شيء عن تفكير المتوفى مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد. “ما رأيت إيمانًا مع يقين أشبه منه بشكّ على هذا الإنسان، إنه كل يوم يودع إلى القبور، ويشيع، وإلى غرور الدنيا يرجع، وعن الشهوة والذنوب لا يقلع، فلو لم يكن لابن آدم المسكين ذنب يَتوكفه ولا حساب يقف عليه إلا موت يبدّد شمله ويفرّق جمعه ويُوتم ولده، لكان ينبغي له أن يحاذر ما هو فيه بأشد النصب والتعب”.
لعل في “بعض” هذه الغفلة منفعة؟ وإلا لما أكلنا وما شربنا وما عمرنا بيوتنا وما ذهبنا إلى أعمالنا “اعمل لدنياكَ كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا”. على أن تكون هذه “البعض” جزءًا من استراتيجية إرادة الله من الحياة في إعمار الأرض وإظهار القوة المجتمعية الفاعلة. في هذا البعد والقرب تذكير لمن يُعطي الحياة حجمًا أكبر من حجمها ويعيش عيش الحيوانات همها الأكل والمرعى لا غير “وللآخرة خيرٌ لك من الأولى”!
حقًّا؛ في آخر أيام فصل الربيع وفي بواكير الصباح أفكر: ما أسعد هذه الطيور التي تستيقظ باكرًا! لا عليها أن تفكر في الموت والحياة والجنّة والنار! ما عليها إلا أن تغرد وتسأل: أين أجد الحبيبات صباح هذا اليوم؟ ليتني كنتُ واحدًا منها وكفاني ربّي هذا العناء والمسؤولية! كل هذه العبودية للدنيا والتعب والمشقة وليس في النهاية إلا حفرة صغيرة وقطعة قماش قيمتها ريالات!