رؤية في قراءة رواية الأمريكي الذي قرأ جلجامش

هناك دائماً عباقرة على هذه الكرة الأرضية يهيمون بأسلحتهم اللغوية القديمة والحديثة ينثرون المعاني في ملحمة درامية يدرج عليها الواقع الذي يصنعه الكاتب بين الدراما الأدبية التي تحدّد ماهية العلاقة الكائنة بين النّص والإبداع للوصول إلى المتلقّي في قطبه الجمالي والفنّي.

إنّها هندسة روائية تسكن بين السّطور بكلّ طواعية بأسلوب تسجيلي سلس غني بالسياقات الفنية الهائلة على استرجاع الزمن وترتيبه وتبويبه حسب الفصول والذاكرة في تفاصيل الأماكن التي تحدثت عنها الرواية.

لقد أجاد الكاتب من خلال خياله رسم الأماكن لتلائم أحداث الرواية وشخصياتها ومهمّتها وفعلها وحركتها وهمومها مشعة بدلالات جديدة ومثيرة للحياة برمّتها في ذلك الوقت، حين جمع مشاهد طائر النورس على الدكة الخشبية في لوحة بانورامية جميلة رصدت زرقة السماء ورائحة البحر وبياض الطائر وريش صدره متخيّلًا الظلّ الرمادي الداكن على الأرض الخشبية، ناهيك عن الظرف القاسي الذي تعرّض له العراق أثناء الغزو الأمريكي من مشاهد القتل والحزن والدمار في إزهاق آلاف الأبرياء في ذلك الوقت أمام جهود المقاومة في الرصد والترصد لهؤلاء الجنود المدججين بأحدث العتاد وأفتك الأسلحة أمام التصميم والإرادة في مواجهتهم.

استمرّ المؤلف في ابتكار الأسماء الإيطالية الأرستقراطية وهي عائلة بوكاشيو التي وضعت اسمها في سان فرانسيسكو على مدى قرنين من الزمن وأمه “صوفيا” التي افتخرت بأجدادها وآبائها في الصور المعلقة في صالة المنزل وهي تسرد القصص الكثيرة لـ”لورا”، زوجة ديفيد بوكاشيو، الابن الستيني الذي ذهب إلى العراق أثناء الاحتلال كمترجم لغة عربية؛ بسبب ثقافته التي نهلها من قراءته للتاريخ البابلي “الشرق القديم” وقصة جلجامش وألف ليلة وليلة التي جعلته أديبًا عازمًا على أن تكون روايته الأولى من أرض الرافدين.

إنّها ليست مجرّد رواية، بل هي لوحة سريالية نشطة وضعها المؤلف العبقري تحت اسم “إصرار الذاكرة” في إيصال الحدث بصورة تلهمك كيفية الربط بين الأجزاء بصورة متماسكة، بناء قائم بذاته، يمكننا معرفته من خلال قراءتها بصورة مركّزة بعيدة عن الملل والرتابة بسبب الأدوات التقنية التي تدفعنا إلى احترام الكاتب.

أتمنّى من المؤلف ألّا يخلع رداءه الذي صنعه بيديه في هذه التحفة الروائية أمام قوة السّرد المعمّقة في فصول هذه الرواية.




error: المحتوي محمي