تأخرتُ في الكتابة عنه أم لم أتأخر، سيان عند الموت ما نريد قوله أو ما لا نريد. أنت لا تستطيع أن تسأل العتمة عن عتمتها إلا بعد ما تتخطاك بمسافة كبيرة، لأنك في أثناء ذلك لا يمكن لحواسك أن تكون مشغولة بسواها، فالموت أخيرا يعرف كيف يسحب رداءه من الطين دون أن يتلطخ به؟
تأخرت في الكتابة عن حسن السبع، لا لشيء سوى أن فكرة التأخر ذاتها تشبه صعوبة تحريك باب حديدي ثقيل بيد واحدة، كي تشرعه عن آخره. عندها لا تدري أين يكون ارتكاز جهدك، على اليد الوحيدة أم على مشاعرك التي تحتاج أن تتهيأ لاستقبال ما ينتظرها خلف الباب؟
أيضا التأخر طريقة أخرى للقول. لكنه القول الذي يتيح الفرصة كاملة للذين نحبهم كي يعبروا أفق انتظارنا دون أن ننفخ في بالون الكلمات من أنفاسنا، الفرصة كاملة غير منقوصة حتى يتأكد الانتظار ذاته أن من مشوا فوق أعشاب طريقه لن يحتاج إلى تنظيفها مرة أخرى من فرط خفة مرورهم.
فكرة التأخر عندي -بالمقابل- هناك ما يبررها أو يوازيها حين نجيل النظر في حياة الراحل المبدع حسن السبع، فمسيرته الطويلة في الإبداع والكتابة لا تترك خيارا آخر للذين أحبوه إنسانا، وأحبوه مبدعا إلا أن يتأخروا وكأنهم أدمنوا الجلوس في صالات الانتظار اليومية: في المستشفيات، المطارات، الحدائق العامة، الملاعب، ومحطة القطارات. وكأن الجلوس في حد ذاته غاية ومطمح لا يضاهيه سوى أنهم مقتنعون في قرارة أنفسهم أن الطقوس بهذه الكيفية لا تناسب قياس قامة الراحل فقط، بل تملك القدرة على خياطة ثوب ما انفلت من إبداعه، ونقش الرسوم والألوان عليه بما تركه من غزلان أشعاره. وهذا لا يكون من دون إبطاء الحركة والتأخر والذي بدوره بالنهاية كما تعلمون يتطلب التوقف والالتفات إلى تلك المسيرة.
الحقيقة التي نتجرع كأسها بمرارة هي أن الشاعر اختفى فجأة عن الأنظار. لكنه لم يرحل، إنه مقيم في كل شيء نراه أو نسمعه من حولنا، مقيم بالصوت والصورة وبالألوان أيضا. الإقامة الدائمة في الأشياء ليست هي ما تقوله الكتابة عن حسن السبع، بل هي حسن السبع ما بعد الكتابة وما وراءها. نرى الضحكة على الأفواه ونقول: ما قبل الضحكة الكلمات مضيئة ومشعة، وما بعدها سقطت على الأرض وتلاشت، نسمع الأصوات ونقول: الصخب الذي يعم المكان دليل على أن الهدوء سقط في بئر آذاننا ولم يخرج. هذا هو حسن السبع الإقامة الدائمة في الضحكة والهدوء.