أين أجد نفسي ؟

كثيراً ما تنصرف العقول لفهم مفردة التيه و الضياع نحو الدلالة المكانية ، و تجعل من تفرعاتها الرمزية معان تدل على حالة الحيرة الفكرية و الوجدانية ، فقد يجد المرء نفسه مشلولا في فكره لا يمتلك القدرة على التقدم خطوة واحدة في المسار الصحيح الذي يعتقده ، و كأن يدا قوية تصفعه كلما أراد التقدم ، و تقف تجاهه كحجرة عثرة تمنعه من رؤية نظرة جميلة تحيط به ، أو يستشرفها في خياله لمستقبل ينتظره .
و في عالم تسارعت فيه خطى عجلة الزمن متأثرة بعوامل مستجدة ، جعلت الوجوه تيمم نحو حياة مادية صرفة أو مموهة بطقوس خاوية لا مضامين فيها ، و تعلي من قيمة الذات عاليا فلا ترى وجودا لغيرها ، فغدت النفوس شحيحة في عطائها الوجداني و مواساة الغير في حالاته المريرة ، فيجد نفسه في كثير من الأحيان وحيدا و كأنه يقف على صخرة صماء في وسط البحر ، في كل الاتجاهات تبعده مسافات طويلة عن رؤية ساحل الأمان و راحة البال .
لو تساءلنا عن مسار علاقاتنا الأسرية إلى أين اتجهت ؟
المسار القيمي يعلي من سور القرابة و الأرحام ، و يعدها جناحا يطير به المرء في فضاء العمل و طبيعة الحياة المعقدة في منعطفاتها و متاهاتها ، و يجد من أهله العون و المساندة في رسم خرائط الطريق التي تتجه به نحو نور الهدوء النفسي ، و لكننا اليوم – و للأسف – نجد انهداما لهذا السور ، و قدد نصبت مكانه ثكنات الجفوة و التجاهل و الإقصاء و القطيعة ؛ ليحيا المرء تيها و حيرة ما بين عالم افتراضي للقيم لا يجد له حضورا في العالم الواقعي ، أو يراه مترهلا و يعاني الضعف و انقطاع النفس في كثير من الأحيان ، فهل وصلت بنا الأمور إلى ضيق النفس و الاستيحاش ممن لا نجد في أحضانه مصلحة لنا ، أم أن فكرنا الضيق لا يسمح لأكسجين التعايش و التسامح أن يصلح لأمخاخنا ، فنتقبل التباين في بعض محطاته البسيطة دون تعصب أو شجار مدو ؟
فمتى نجد النفوس و قد صخت لصوت العقل المتنور الواعي ، و الذي يدعو لنسج علاقات صحيحة و ناجحة تعلو على لحيظات انفعال أو اختلاف لا يستحق كل تلك المشاعر السلبية التي استجذرت و تفرعت في القلوب ، فامتصت مساحات كبيرة من معين المحبة و الاحترام و القدرة على التسامح ؟
و تتبلور الحيرة و التيه في أحلامنا التي تعاني إعاقة أو موتا سريريا حتى ، فلم تعد تأخذ المساحات الكافية من خيالنا الجامح بطموح كبير ، بل تحولت لجلسات تندر و سخرية عجيبة تنطلق من أنفسنا إليها ، فتحولت الظروف الصعبة و ساعات المحن و المصائب إلى مناحات و آهات تزفر حارة و كأنها تنطلق من فم تنين غاضب ، فتملكتنا النقمة من واقعنا و كأننا كنا ننتظر المعلقة الذهبية تداعب شفاهنا ، فسخطنا من فقر مستشر و جهل عميم بنحو كبير و فساد يطبق على اعناقنا يخنقها بكلتا يديه ، و تهنا عن حقيقة وجودنا ككائن يتحدى الصعاب و مهمته نحت صخور العقبات و تحطيم خيوط الظلام بشمس الأمل ، و مد جسور العمل المثابر على صبخات و أوحال العوامل القاهرة ، فالحياة أنفاس عمل مثابر و ليست ساحة أمنيات كاذبة ، و لا مسرح تراجيدي للمناحة كلما واجهتنا صعوبة أو مشكلة نتكتف أمامها .
و اعز ما نملكه و هي أنفسنا تعيش غربة و حيرة و متاهة ما بين قصص مؤلمة و أحداث حزينة نعايشها في كل يوم ، فنرى و نسمع ما يسيء لآدمية الإنسان و علو شأنه بعقل يذلل له الصعاب ، و إذا بالإنسان يتهاوى بين أهواء و شهوات تستنزف عقله و جيبه ، و يجد في العدوان متنفسا لإبراز قوته و حجمه الوجودي الاقتداري ، و يجد في الطغيان و التعالي ما يتباهى به في تأليه ذاته و تقزيم الآخرين ، أفلا يبصر هدى احترام النفس فيمنعها من كل ما يسيء إليها من تفكير سطحي أعمى ، أو سلوك يسود صفحة بيضاء لهويته الحقيقية ؟!!


error: المحتوي محمي