وجوه في «حرفيون 2».. من سنابس.. بيد واحدة.. علي آل شطي اختلس حرفته من «القلاف».. وزين بهو الفنادق بسفنه

قبل أربعين عامًا وعلى مرسى شاطئ سنابس لم يكن يعلم ذلك “القلاف”، وهو النّجار المختص بإصلاح السفن أنّ عيون صبي صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره لا تغادرانه في عمله مطلقًا، تراقبان وبكل دهشة وملأى بعلامات الاستفهام عمله المتقن في تشخيص الأعطاب وإصلاحها كدكتور بارع وفنان في جراحة السفن، بل لم يكن يعلم أيضًا أنّ تلك الدورات غير المتعمدة منه والمتكررة بخروج ذلك الصبي مع والده إلى بحر سنابس الممتد، وحضورهِ لجلسات علاج السفن ستصنع من علي ناصر آل شطي هاويًا شغوفًا بصناعة مجسمات السفن، ولتتطور تلك الهواية فتغدو احترافًا وحذقًا وبراعة، وليصبح ابن جزيرة سنابس مع الوقت عَلمًا في مجاله كالشراع في سفينته.

سنابس صنعتني
يسرد آل شطي لـ«القطيف اليوم» البدايات التي صنعت براعته في صناعة السفن قائلًا: صناعة مجسمات السفن ليست مهنتي الرئيسة، بل هي هواية أمارسها بشغف وتعلّق شديدين أجمع بينها وبين عملي موظفًا في أرامكو السعودية منذ عام 1977م حتى تقاعدي عام 2002م.

ولأنني من مواليد جزيرة تاروت، وإلى بلدة سنابس يعود مسقط رأسي، فقد خالطتْ طفولتي وشبابي بيئتها البحرية الساحرة، ومن سحرها تعلقت بالبحر وسفنه ومراسيه.

ويضيف: علاقتي مع هذه الحرفة وثيقة تحكيها الأكثر من أربعين عامًا التي عشتها معها ولها، فتعلقت بها ولعًا وعشقًا، وأصبحت السفن التقليدية القديمة جزءًا من تفاصيل يومياتي جميعها طول تلك السنوات، فمرافقتي مع والدي -رحمة الله عليه- إلى البحر في قاربه الشراعي كانت وقتي المستقطع للاستمتاع البالغ برؤية القوارب تسير بأشرعتها وسرعتها التي تعتمد على سرعة الرياح، أما صناعة السفن فتلك لها معي قصة أخرى.

القلاف بداياتي
أذهلت صناعة السفن الشطي بكل ما يرتبط بها، وكان لبلدتهِ سنابس الأثر البالغ في ذلك، فقد كان أهلها ممن يملكون تلك السفن يخرجونها في فصل الشتاء من البحر إلى اليابسة على الساحل بمحاذاة المنازل ويجلبون لها النجار المختص الذي يُطلق عليه وقتها اسم “القلاف” فيقوم بعمل ما يلزم لهذه السفن من صيانة وإصلاح، وكان هذا الوقت أشبه ما يكون بالقراءة العميقة للسفن في عيني الشطي وهو لا يزال صبيًا في العاشرة، فيقف مندهشًا من عمل ذاك القلاف، ومضمار من الأسئلة يدور في خلده: كيف يستطيع هذا القلاف تشخيص الأعطاب وإصلاحها؟ وكيف يجيد استبدال قطعة بقطعة أخرى؟ بل كيف تكون مطابقة للقديمة حيث تحل مكانها؟

وكان يلمس بما يراه أنّ هذا العمل لا يختلف من قلاف إلى آخر ولكن الفارق في التمكن وخفة اليد وسرعة ودقة العمل، ومنها قرر أن يقلد القلاف في عمله ولكن بعمل مجسمات لتلك السفن بجميع أنواعها، وتطبيق كل ما انطبع وتركز بعقله.

التجربة الأولى أصعبها
تحدّى الشطي نفسه، فعمل مجسّمه الأول بصعوبة، ولم يكن بتلك الجودة والدقة المطلوبة، حيث عرضه على أحد البحارة، فأفضلَ عليه بعض النصائح، وتلت تلك المحاولة تجارب ومحاولات ولمرات عدة، وفي كل مرة يكون العمل أفضل من سابقه، حتى أخذ يتمرس ويتمكن في عمله يخدمه في ذلك الوقت والعمل المتواصل، إلى أن وصل إلى حد الاحتراف والتميز بعمل تلك المجسمات لنماذج السفن، وأضحى بصمة في مجالهِ يُشار له بالبنان، ويسمع الكثير من كلمات الإطراء الجميل ممن يشاهدها، وهذه السمعة الطيبة عند الناس نعمة تستحق الشكر من رب العباد كما يراها.

كفتا الميزان
لم تختلف الأدوات اليدوية نفسها المستخدمة في صناعة السفن بين القديم والحاضر، والفرق كما يذكره الشطي يكمن في استخدام مخلفات البناء من الأخشاب قديمًا والتي عادة ما تحتاج لجهد لتنظيفها من الإسمنت الملتصق بها، لكن صنّاع السفن في وقتنا الحاضر يشترون الخشب النظيف من محلات بيع الأخشاب، أما القلافون فلهم شأنٌ آخر، فأدواتهم الخاصة وهي مصنوعة من جذوع شجر السدر.

ويتفاوت الوقت المستغرق لعمل السفينة بحسب النموذج، فالصغيرة تستغرق أسبوعًا من العمل، أما الكبيرة تستغرق وقتًا أكثر، وتتراوح الأسعار ما بين الـ300 ريال إلى الـ3000 ريال، وتكمن صعوبة إعداد المجسم في جزأين من العمل؛ أولهما هو عمل قالب السفينة الأساسي الذي يجب أن يكون متناسقًا من الجهتين مثل كفتي الميزان.

ويتمركز الجزء الثاني في الإكسسورات المتعلقة بالسفينة؛ فمثلا البكرات والحبال لا بد وأن تكون بنفس الشكل والدقة، فالصعوبة هنا في تطبيق هذا الشيء جيدًا، فالشطي وغيره من صناع السفن يحتاجون لعدة بكرات، فلو اختلفت واحدة منها احتاج لتكرار العمل حتى يتساوى الجميع شكلًا ومقاسًا.

عودة التراث البحري
يرى الشطي من خلال مزاولته لحرفة صنع مجسمات السفن أن اقتناءها ليس له علاقة بالماضي والحاضر، ولربما سابقًا لم يكن هناك اهتمام كبير بها عند الناس، ولكن في الوقت الحاضر لاقت رواجًا كبيرًا بينهم كتراث بحري تُزيّن بها المجالس والديوانيات وبعض المطاعم والمقاهي الشعبية ليسترجعوا من خلالها عبق الماضي وأصالته، كما أصبحت تهدى كتحفة بحرية مميزة تعكس تراث الآباء والأجداد الذين قضوا جُلّ وقتهم في البحار لكسب رزقهم وقوت عيالهم.

سفينةٌ وبهو
استطاع الشطي ببراعة عمله أن يخطف أنظار الرائين لأعماله مدهوشين ومبهورين بدقة وإتقان ومهارة يده البارعة، فأصبحت مجسماته التي فاقت المئات عددًا مطلبًا لأصحاب الذائقة التراثية التي تقدر وتجل الحرف اليدوية، وكان من ضمن العروض التي تلقاها لأعماله طلبًا من أحد رجال الأعمال بالدمام، وهو صاحب مشروعات ضخمة لتأثيث الفيلات والقصور والفنادق، فقد زارهُ في منزله وطلبَ منه عمل سفينة مميزة ذات شراع، وأخبره بأن تحفته الفنية هذه سوف يُزيّنُ بها بهو أحد الفنادق بالجبيل لثقته به، فكان أن صممها له حسب طلبه وذائقته، وكانت نتيجة التصميم ثناءً جمًا وتقديرًا على جودة العمل وأصالته.

اليسرى خلف اليمنى
شارك الشطي بدافع شغفه وإيمانه بعمله، وتشجيعًا منه على الحفاظ على تراث المنطقة المختلف والمتنوع في جميع الفعاليات والمهرجانات التي تقام في المنطقة كمهرجانات الدمام، وأرامكو والظهران ورأس تنورة وأندية المنطقة ومنها نادي الاتفاق ونادي الخليج بسيهات ونادي الترجي بالقطيف وجميع من كان يدعوه من جهات رسمية وغيرها بالمنطقة، وعلى الرغم من تعرضه لإصابة أفقدته كفّه اليمنى فإن تلك الخسارة أشعلت في داخله فتيل التحدي والإصرار على المواصلة بيد واحدة، وتطويع اليسرى لتبارك العمل اليدوي، ولتقوم بكل الأعمال التي زاولها بكفه اليمنى وبذات الإتقان والإبداع.

ويشارك الشطي مؤخرًا في فعالية “حرفيون 2” التي ينظّمها مكتب الضمان الاجتماعي بمحافظة القطيف، بالشراكة مع بلدية المحافظة، وجمعية التنمية الأهلية بالمحافظة، في حديقة الناصرة بمحافظة القطيف، والتي انطلقت يوم الأحد 4 رمضان 1444هـ، وتستمر على مدى 10 أيام.




error: المحتوي محمي