الوقت الثروة المنسيّة

أخذت جوال زوجتي لورشة تصليح الجوالات لإصلاح عطل أصابه وأخبرني صاحب المحل أن المشكلة بسيطة ولن يكلّف إصلاحها شيئًا وقال: إن شاء الله سيكون جاهزًا الليلة وسوف تصلك أولًا رسالة واتساب تبلغك باستلام الجهاز، صرت أراقب جوالي في انتظار وصول الرسالة ولكنها لم تصل، فانتظرت حتى اليوم التالي ولم يصلني شيء أيضًا فاتصلت على رقم المحل للاستعلام ولم أتلقّ أي ردّ، فحملت نفسي وتوجهت للمحل وعند دخولي رأيت صاحب المحل متّكئًا على ظهر كرسيه وأصابعه تعبث بالجوال، سلّمت عليه وسألته عن الجوال فطلب مني الانتظار ريثما يتأكد، فقلت له أتمنى أنه لم يتم إصلاحه ولا تقول لي أنه جاهز لكنك نسيت إبلاغي! رمقني بابتسامة صفراء وانسلّ ببرود إلى كابينة صغيرة يبدو أنها مخصصة للصيانة وأتى بالجوال وعينه ترمش بالخجل وقال إنه بالفعل جاهز واعتذر على التأخير!

كانت طريقته ستثير غضبي لولا أنه اعتذر وطلبت منه أن يتسع صدره لما سأقوله، وأن يجيبني بكل صراحة عن سبب عدم التواصل معي رغم جاهزية الجوال؟ فأجاب: ضيق الوقت وزحمة العمل شغلاني عن التواصل معك! طبعًا الإجابة لم تقنعني لأنني ضبطته وحده لا شغل ولا مشغلة، اغتنمت فرصة أننا وحدنا وليس هناك زبائن آخرون غيري في المحل فاستأنفت الكلام معه وسألته: هل ترى ضيق الوقت مبرّرًا مقنعًا لعدم الالتزام بمواعيدنا والوفاء بكلمتنا؟! فأجاب لينقذ موقفه: نعم، إذا أعطيتني وقتًا سأعطيك إنجازًا! قاطعته وقلت له: رغم أن إجابتك دبلوماسية لكنها أسطوانة قديمة ومخرج سريع للهروب والوقت هو دائمًا شماعتنا التي نعلق عليها تقصيرنا مع أن الوقت متوفر بغزارة ولكننا للأسف لا نعرف قيمته ولا نعرف كيف نديره ولا حتى كيف نستفيد منه الاستفادة المنطقية، قلت له ذلك وودعته وانصرفت.

يتفق الجميع على أن هناك حالة هدر وتبذير في المواد الخدماتية كالماء والكهرباء والتبذير في المصروفات الأخرى وكذلك هناك في المقابل حالة تبديد لثروة الوقت التي لا يحسن البعض كيفية استثمارها وأخشى أن يأتي يوم لا يجد الناس فيه وقتًا كافيًا للنوم والأكل والسفر والتفكير والإبداع والعطاء و، و، و.

(ربّما) وهو مجرد احتمال وقراءة افتراضية أن يحدث مستقبلًا انحسار وجفاف ونضوب في الوقت فيكون الهاجس العام هو البحث عن الوقت فلا يجدونه.

كثير من المجتمعات على مختلف قومياتهم يتباهون ويستعرضون إمكانياتهم الهائلة بإقامة الفعاليات والمهرجانات الضخمة ويصرفون عليها الكثير من الوقت والأموال ثم في النهاية يخلدون للنوم لساعة متأخرة وكل هذا على حساب الوقت.

ثقافة الحرص على الوقت والتخطيط لجعله ثروة مهمّة ومستفادة تكاد تكون مهملة إذا لم تكن معدومة أصلًا عند بعض المجتمعات فالكثير من الناس يعيشون بمعزل عن الوقت لأنهم يعتبرونه خطرًا يهدد بقاءهم واستمرارهم فلا يريد أحد أن يرهن حياته بالوقت طمعًا في اللذة والمتعة وهذا ما يجعل هذه المجتمعات تعيش العبث والفوضى فتتلاشى أهدافهم وتقصر رؤاهم البعيدة مما يجعلهم يتأخرون عن اللحاق بركب الدول المتقدمة التي يختلف الأمر معها فهي تجري الدراسات والأبحاث المستقبلية ليلًا ونهارًا لاستغلال عامل الوقت، فالوقت بالنسبة لها جزء من كيانها وشخصيتها وثقافتها وخططها وسياساتها واقتصادها وإن نموّها وتقدّمها وتطورها ونجاحها قائم على احترامها للوقت وإذا لم تضع ذلك ضمن حساباتها سوف تتأخر وتتقلص أدوارها!

وعليه لابد لنا نحن كمجتمعات أن نعيش في الضفة الأخرى وأن نعي هذه المسؤولية وأن نصحح نظرتنا ونتسلح بالوقت ونعمل على وضع الإستراتيجيات والخطط اللازمة للحفاظ على هذه الثروة الوقتية وتأصيل ثقافة الوقت وقيمته في عقول أجيالنا وإدخاله كمحور ومنهج دراسي في حياتنا حتى نصنع جيلًا متعلمًا ومثقفًا وواعيًا نعتمد عليه في إدارة عجلة النهضة والنمو والاقتصاد والإعمار والازدهار في بلدنا العزيز.



error: المحتوي محمي