تكوينُ الرُّموز

تتشكل الرموز من أفكار صلبة؛ قابلة للتطبيق على أرض الواقع، فهي وإن جاءت نتيجة قصص خيالية، أو روايات مختلقة لا أساس لها من الصحة سيظل المحك الكبير في قدرتها على البقاء والتعايش مع المتغيرات، فإذا استطاعت التكيُّف معها، كان ذلك إيذانًا بانتقالها من مجرد فكرة إلى أمثولة رمزية، تتناقلها الألسن وترويها الأجيال.

لأجل وصول الأفكار إلى أمثولات رمزية، ينبغي أن تسلك طريقين؛ الأول طريق مصطنَع، والثاني طريق طبيعي؛ فالمصطَنع ما قامت باختراعه الحكومات والدول، وعملت السلطات على نشره بين الناس؛ تطبيقًا لمبدأ من المبادئ، كالمنجل شعار الشيوعية، أو ما عملت الأديان على اعتماده والانتماء إليه؛ كالصليب للمسيحية، والهلال للإسلام، أو أن يكون ناتجًا عن الدين والسلطة معًا؛ كالشخصيات التي يتم نسبتها إلى الدين، بتطبيق الأحاديث عليها، مع اتصالها بالسلطة؛ كمحمد الفاتح لمدينة القسطنطينية، إذ روي في حقِّ فاتحها: “لتُفتَحَنَّ القُسطنطِينيةُ فلنعمَ الأميرُ أميرُها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش”؛ حيث تم تحشيد الآلة الدعائية للإعلاء من شأنه، وأنه المقصود بالحديث النبوي، وبهذا تم له التحوُّل إلى رمز.

الطريق الطبيعي أكثر صعوبة؛ إذ يعتمد على الشخص نفسه، الذي يمارس السلوك بمنتهى التلقائية، فلا حاجة للمؤمن أن يفصح عن نفسه أنه مؤمن، كما لا حاجة بالعالِم أن يُفصح عن نفسه أنه عالِم، فسلوكه العفوي، والصورة المرسومة عنه في الأذهان؛ تكفيان للدلالة على حاله، ومثل المؤمن والعالِم أصحابُ المخترعَات؛ كعباس بن فرناس الرجل الذي حاول الطيران، وأصحابُ التشريعات التنظيمية كحمورابي، أو أصحاب الفكاهة كجحا، فهؤلاء وكثير غيرهم، انتقلوا من واقع فعلي ممارَس أمام الناس؛ إلى فكرة ذهنية استوطنت ذاكرتهم، وذاكرة أبنائهم، فتناقلوها لا على سبيل الدعاية لها، وإنما لوجودها في موروثهم، وهكذا انطلقت؛ لتكون رمزًا حاضرًا في أكثر من مكان، ولدى أكثر من أمة.

سواء أكان الرمز مصطَنعًا أم طبيعيًّا، سيحتاج إلى أمرين لإكمال تحوُّله؛ الأول إيمانه العميق بالمبدأ الذي صدر عنه، واتخذه سلوكًا في حياته، والثاني العفوية والتلقائية التي تؤدي إلى التكرار الدائم والمتلاحق للسلوك والقول، فشخصيةٌ كعباس بن فرناس؛ راقب عمل أجنحة الطيور، وتابعها في جميع تفاصيلها، إلى أن أصبحت شغله الشاغل، إلى أن قرر تجريب الطيران، فصنع لنفسه جناحين من الريش، ثم صعد إلى قمة جبل، وبالفعل تمكّن من الطيران والبقاء في السماء، لكنه حينما أراد الهبوط؛ أدرك عدم وجود آلية لكبح سرعته، فارتطم بالأرض، وأصابته كسور ورضوض؛ أودت في النهاية بحياته، فهذه الشخصية وإن لم تمارس تكرارًا دائمًا ومتلاحقًا للسلوك والقول؛ إلا أنها انتشرت كفكرة ذهنيَّة، حوَّلت صاحبها إلى نموذج للمثابرة والإصرار، ثم إلى رمزٍ في عالم الطيران.

ثمة شخصيات تشابهت سلوكياتها مع ما قام به عباس بن فرناس، بعضها في مجالات علميّة وأخرى ضمن مجالات سلوكية؛ ففي المجالات العلمية برز جابر بن حيان، والرازي، والبيروني، وجاليلو، وكوبرنيكوس، ونيوتن، أما ضمن المجالات السلوكية؛ فبرز حاتم الطائي، وعنترة، وأشعب، ونيرون (حاكم روماني أحرق روما)، وياغو (نموذج الخيانة في مسرحية عُطيل لشكسبير)، وروميو وجولييت؛ رموز الحب في القصة المشهورة.

لكل شخصية من الشخصيات نسبة معيَّنة تمتلكها من السلوك أو القول، وبحسب هذه النسبة يتم تحديدها في خانة النماذج، فعنترة امتلك فائض شجاعة، سخَّرها لخدمة قبيلة عبس في حربها ضدَّ ذبيان، وحاتم الطائي امتلك فائض كرم سخره لخدمة الضيوف والعابرين، فهذان النموذجان ارتقيا من الحالة الاعتيادية للبشر، حينما قاما بتوظيف الفائض مما يمتلكان، ولو أنهما أهملا توظيف الفائض لديهما؛ ما تمكّنا من التحوُّل إلى فكرة ذهنية؛ تناقلتها الأجيال، واعتمدتها كنموذج للشجاعة والكرم.

الأفكار الذهنية لا يتم تحوُّلها إلى أمثولات نموذجية، ورموز إنسانية؛ إلا حينما تبلغ الغاية في الأمر، عبر بذل الفائض مما يمتلك الإنسان، بكل رحابة صدر، ودون ضغط، حيث الشرط الأساس أن يأتي السلوك والقول عفويًّا تلقائيًّا، فإذا أُكرِه على القيام به، أو تم دفعه إليه دفعًا، عجز عن التحوُّل إلى رمز، كحال الكثير من الجنود في المعارك، أو كحال الكثير من البشر حينما تضيق بهم السبل، حيث يوضعون في مواقف لا يُحسدون عليها، فيأتون بسبب ذلك بأقوال لا تتناسب مع شخصياتهم، أو سلوكيات لا تتفق ومكانتهم.

الأفكار الذهنية تنمو على أرض صلبة؛ تتمثل في الواقع الفعلي للحياة، التي ستظل المحكَّ الرئيس لإمكانية تحوُّل البشر، أو الشخصيات، أو الأماكن، أو الكتابات، إلى رموز وأمثولات؛ يتبعها الناس، ويفتخرون بالانتماء إليها، وتعمل على تشكيل ذاكرتهم، وإعادة صياغة وجودهم.



error: المحتوي محمي