استوقفني قول لا يحضرني قائله وهو “الحصول على دماغ يستطيع الكتابة معناه الحصول على دماغ يعذبك”!
وهنا أتساءل: هل الكتابة والبوح يأتي من خلالها عذاب؟! ونظرًا لاختلاف أساليب الحياة، تخترق قلوبنا أحاسيس وتختفي في طي الكتمان، وهنا بدأت تنتابني مؤخرًا الرغبة في البوح، ولا أدرك السر في ذلك؛ ربما إحساس مبكر بالموت! ولعلي أيضًا أردت أن أزيح عن صدري كل شيء موجع لتسكن روحي وتهدأ! وكأن البوح في داخلي طفل يصرخ وأدركت أنه ليس للبوح كبرياء!
هناك ثمة أمور تخنقني من الداخل أجهل ماهيتها! ولعلها أفكار متباينة وطارئة! ولكن الآن عليّ أن أرتشف قهوتي، وعليّ أيضًا أن أكتب شيئًا قبل أن يشيخ قلمي ويشيخ معه صمتي! فالكتابة قدر يختارنا، وقد تجعلني الكتابة أحيانًا في مأزق! بعد عذابات استثنائية مع وجع الكسر بقدمي لشهور طالت، تاق قلمي إلى جلسة خاصة صادقة مع ذاتي، لألقي بهموم قلبي على أعتابه، ولعلي أخشى أن أصحو ذات لحظة أفتقد فيها نبض قلبي قبل قلمي وسيبقى حينها فقط فنجان قهوتي وماذا بعد! وما أصعب أن أستأنف الكتابة في الوقت الذي يكون فيه أصحاب الأقلام الرائعة هنا قد انتهوا من سرد كل جميل لديهم! ولكن على ضفة البوح أنا هنا أبحث عن صوتي القديم دون بحة والذي يترجم مشاعري وطفولتي المستنزفة المهدورة في غير أوانها!
ذات حدث كوني رهيب، تبدو لي السماء شاحبة والأرض كئيبة داكنة، لا تكاد تتنفس وفي باطنها لفظ الآلاف من البشر أنفاسهم الأخيرة! وبعضهم بأعجوبة الأقدار السماوية أخرجتهم من بطن الأرض ثانية ليحكوا ويبكوا ويشكوا! هل لي بجرأة أن أتساءل بعد كل ما سمعت ورأيت: ما سر غضب الأرض وحزنها؟! عندما تكون الأرض ثائرة متعبة مستنفرة تزداد حاجتنا لأكتاف بعضنا البعض، كم من الأحداث والمصائب تذكرنا بحاجتنا لبعضنا ولغيرنا! فالمشاعرالإنسانية تأبى إلا أن تكون حرة، حتى غيوم السماء لا تستطيع أن تحجب مشاعرنا! ولكن ما يؤرقني ويقلقني هو: ألا يحق لنا أن نتوجع على الغير رغم بعد المسافات؟! ويراودني أحيانًا سؤال آخر: لماذا هناك إيقاع للنبض! وهل لدى البعض طريقة لكتم تلك النبضات!
قرأت جملة للفيلسوف الألماني نيتشة: “إن لم أجد شيئًا يقلقني فهذا يقلقني”. المعذرة يا نفسي حيث أعيش لحظة تجلٍّ وتأمل، للتعافي من هول كارثة الزلازل الرهيبة التي قضت على البشر والحجر والتي أفزعتنا جميعًا! وجعلتني أتسمر بالساعات الطويلة أشاهد وأتابع أهوالًا وأموات وصراخًا واستغاثات ممن نالهم ذلك الحدث الكارثي العظيم إخواننا في سوريا وتركيا! لا جدال في تفاعلي وبكائي وحزني على هؤلاء الضحايا! رغم أن الصورة تكاد أن تكون مظلمة من شدة الفزع والحزن عليهم! كنت أتخيل أن القيامة قد قامت وأن الأرض قد أصبحت قبرًا مفتوحًا! والمعذرة أيضًا على هذا التشبيه غير العادل إلا أنه تصوير منطقي! صدقًا ما إن حدث هذا الزلزال العظيم حتى إني تراجعت عن أمنيات وأحلام أردتها، فالحياة أقصر من أن تحتوي ذلك! من هنا سأمنح للضحايا هناك دعواتي بالرحمة وللمصابين بالشفاء وللمفقودين بالفرج يا رب.
وحتى لا يساء فهمي أنا هنا لا أكتب لمجرد الكتابة أو التسلية أو من باب التباهي! ولعل البوح يبدو غريبًا في نفوس البعض؛ حيث لحظة البوح هي إحدى لحظات الطهر! ولعلك أيها القارئ قد تلتمس التوتر والتشتت ولعل بعض الحروف مبعثرة في النص مع بعض الوجع الخفي من خلال بوحي الخجول! أنا صدقًا لست كاتبة دائمة، لكنّني أكتب حين أجد ما أكتب عنه؛ حيث أعيش حياتي بما يناسبني، وأحيانًا أهرب من تجاوز ونفاق البعض ولي أسبابي بتجاربي الحياتية، والتي تسمح لي بالكتابة عنها ببياض
صدقي.
وما أكثر الحكايات التي يحتاج أصحابها التخلي عن أقنعتهم! ولأني قارئة نهمة اعتبرت الكتب الصديقة الكاتمة لجنوني وهيامي ومتعتي في التحليق عند القراءة، نعم القراءة تمدني بتجربة البوح الذاتي، وتخلق بداخلي أخلاقًا ومبادئ وقيمًا من الصبر والإصرار والتحدي حد الجرأة، وبصوت عالٍ أن أقول الحق والصدق دومًا. أعترف كلما تقدمت في العمر أشعر أنني كنت أتصرف بعقلانية وإنسانية فيما مضى، وقراراتي معظمها كانت صائبة باختصار أنا صانعة قراراتي، وثقتي بالغير كانت مدروسة حد التحفظ!
وأخيرًا، أحلم بلحظات سعيدة تعيش داخلي ما زلت أنتظرها، لكنها بالنسبة لي لم تأت بعد! وحينها سيكون البوح متاحًا ومسموحًا لي لما فيه من عذوبة دون عذاب.