فارقتني الجدة الأم

وتأملت والسرير الأبيض..
وتلك الغرفة الصغيرة ..
حيث ترقد أمي ..
كأنه غيمة بيضاء ..
ملاك وسط السماء ..
ترقد بهدوء ..
وتتألم بصمت وصبر ..
تنعم بالسكينة والسلام ..
يشع وجهها نورًا وضياء ..
أمسكت يديها ..
دافئة كعادتها..
حانية القلب ..
ساكنة أمي لا تتحرك ..
إلا من رمشة عين ..
ترمقني من طرف عينيها ..
نظرات مبعثرة ..
تترجم حديث الحب بصمت ..
نظرات دون كلام ..
بعض من الكلمات تتكسر على حافة شفتيها ..
يعجز صوتها المبحوح عن التعبير ..
ولسانها عن النطق ..
تنساب من مقلتيها دمعة بريقها كاللؤلؤ ..
تنحدر على خديها كالسيل ..
أمسحها بأناملي ..
ودمع عيني لا يتوقف ..
أخبرها أني أعرف ما يدور في داخلها ..
رغم الصمت ..
وتلعثم الكلمات ..
الذي يبددها صوت جهاز نبضات قلبها ..
ومع كل نبضة يا أمي ..
أقرؤك ِوقلبي يخفق بألم ..
ويأنُّ بـوجع ..
وتدور عجلة الأيام للخلف ..
أقلب شريط الذكريات ..
أرى في قسمات وجهك آهات السنين ..
أتذكرك ..
امرأة قوية ..
مجاهدة ..
لا يغفو رمشها إلا إذا غفت العيون من حولها ..
لا تهدأ روحها أبدًا ..
أمي ..
تلك المرأة المكافحة ..
تتصب قطرات العراق على جبينها كقطرات المطر ..
لها رائحة كرائحة المسك ..
غير الزمان ملامحها ..
أمي ..
معلمتي الأولى ..
تلك التي ربتني وكبرت في كنفها ..
توجهني بحب ..
تطعمني بحنان ..
أخلد للنوم على صدرها بأمان ..
لا أخاف لأني أتكئ على ظهرها ..
فكانت الأم العون والسند ..
أدفن وجهي في راحة يديها فتتهاوى كل آلامي ..
أشم عطرها فينجلي همي ..
تطوقني بيديها لتتبدد كل أحزاني ..
أحداث كثيرة !! في ذاكرتي ..
لا تمحوها السنين ..
فأنا أراكِ ..
عماد منزلنا ..
وأساس الحياة فيه ..
مصدر السعادة ..
وطوق النجاة ..
زهرة الأمل ..
أمي .. حياة تدعم الحياة ..
تتقن الصبر وتمدنا إياه ..
عند قدميها الجنة ..
وأنا أتمتم بآيات الشفاء ..
أدعو لها أن احفظها يا رب ..
أمد في عمرها ..
فلا طاقة لي على فراقها ..
إذا بجبينها يتصبب عرقًا..
وأنينها سكوت ..
وأنفاسها تخفت..
صدى صوت الأجهزة بدأ يختلف ..
خطوط ومؤشرات الحياة تستقيم ..
أمي .. ت ح ت ض ر ،،
أمي تموت ..
وأنا لست أنا ..
حضروا للإنعاش..
الموت يحوم حول أمي ..
يخطف من بين يدي ..
كان كل شيء سريع ..
من الصعب أن أعيش ..
اللحظة الأخيرة ..
لحظة أن أغمضت عينيها ..
لم تعد تراني ..
انفصلت عني ..
وتغير كل شيء
لحظة توقفت نبضات قلبها الحنون ..
فلم أعد أأنس على صدرها ..
لحظة توقفت فيها أنفاسها ..
فلم أعد أحس أمانها ..
لحظة خروج الروح ..
فلم أعد قريبًا منها ..
لحظة أن تلاشت فيها حرارة يديها ..
لم أعد أشعر بدفئها ..
أبعدوني عنها عنوة ..
ودعتها ودموع الأسى بعيني ..
ما أقسى مُـر الفراق ..
الفراق الأبدي ..
ذاك الشعور ..
قاسٍ ..
مؤلم ..
حد الوجع ..
فلا تلوموا
فاقدًا إذا جزع ..
فمن فارقتني كانت الجدة الأم ..
التي وهبت الحياة بلا مقابل



error: المحتوي محمي