اليوم توجد ضجة وجدل واسع حول طريقة التعاطي مع العولمة الثقافية، فمنهم من يريد سد باب الفساد والانحراف للمحافظة على الهوية والخصوصية الثقافية، ومنهم من يريد الانفتاح الثقافي الحر دون ضوابط بحجة أن حرية الإنسان في تلقي المعرفة والثقافة الغربية شرط من شروط النهضة والتقدم العلمي، وأما الدعوة إلى الانفتاح الحر فلابد لنا من وقفة هادئة نناقش فيها هذه الدعوة والموقف الذي يجب أن نتخده منها، وكنت أتساءل ما الفائدة من العبارة “الحرية الشخصية”؟ وما فهمته هو أن تصرفات الشخص وسلوكه ليست مقيدة، غير أن الواقع ينفي ذلك، فليست كل السلوكيات مسموحة، إذ لا يمكنك أن تتسوق بملابس النوم فهذا فيه خدش للحياء، نرى إذن أن عبارة “الحرية الشخصية” لا محل لها من الإعراب، فليس من حق أي شخص أن يمارس حريته خارج الضوابط الشرعية والرسمية والاجتماعية، ومعنى ذلك أن الحرية متى كانت لها بداية ونهاية. وأيُّ مفهومٍ آخر للحرية يُناقضُ هذا التصور، لأن الحرية المطلقة ليست مطلبًا لمنْ يدّعي أنه حُرّ مكلّف وعاقل! بل لا بدّ أن تكون الحرية مقنّنةً بشكل أو بآخر، عبر سلطة الدولة، وسلطة المجتمع وسلطة القيم والأعراف والأخلاق، وفوق هذا وقبل هذا كله، سلطة المعتقد! فلكل شخص أو جماعة أو أمة مفهوم خاص بالحرية الشخصية، وفي كل زمان ومكان وفي كل العصور لا يردع معظم الناس إلا القوانين الصارمة التي تنفذ ضد مرتكبي الأخطاء الموجبة للعقاب، ولذلك لجأت الحكومات ومن دون استثناء لسن قوانين وضوابط تحكم تصرفات الأشخاص، ولعل ما يثار هذه الأيام من مداولات عبر وسائل التواصل الاجتماعي دليل على التباين في ذلك المفهوم!
لقد لمست الجرح من خلال تلك الأصوات الشاذة والغريبة التي تعالت مطالبة بترك الشباب يمارسون ما يحلو لهم، باسم الحرية الشخصية، فقد يعترض البعض على مفهوم ضبط الحرية ويعدّه فرضًا للقيود، إلا أن لكل شيء حدَّاً، وحدود الحرية تنتهي عند التعدي على حريات الآخرين، إن دعاة الانفتاح الحر على الغرب عندما يطلقون كلماتهم، هم فقط يقدمون لنا التنظير والتبرير ؛ بحجة التطوير أو التجديد، فقد فتحوا أبواب العولمة على مصاريعها، فأصبحت تتلاقى ثقافاتها وقيمها على ساحة من التفاعل والتلاقح الفكري والمعرفي والأخلاقي، فأصبحوا يعيشون النمط الغربي عقلًا وروحًا وأخلاقًا، ولا توجد بينهم وبين الإسلام حتى عاطفة الانتماء، وأصبحت قيم الغرب عندهم ميزان التقويم للقبول والرفض، وهذا بدوره يتجسّد في نصائحهم وأقوالهم ومقالاتهم التي تضاهي الراسخ وغير المتغير، رأيناهم يرفعون شعار ” الحرية الشخصية ” تحت مظلة النقد أو القذف الظاهر والمستتر، هم دخلوا في حرب ” طواحين الهواء ” مع رجال يحملون ألبابًا وعقولًا وأفكارًا، من أبناء هذا البلد المخلصين من ذوي العلم والخبرة والضمير الأخلاقي والحضور الواسع في المجتمع، أولئك منَّ الله عليهم بنعمة النصيحة والموعظة والرأي والمشورة، هم يعملون لخدمة مجتمعهم ودينهم وبلدهم المعطاء لوجه الله تعالى، هم يدركون حجم القضية، ويعطون رأيهم في بعض المظاهر السلبية والدعوة إلى الاستقامة قبل أن يفوت الوقت – وللأسف الشديد – هؤلاء أصبحوا عرضة لحملات التشنيع والإساءة من أولئك الذين نصّبوا أنفسهم حرَّاسًا وحماة للذوق والقيم والحرية، ووصفوا من يعارض توجهاتهم بالعقلية الجامدة أو الثابتة “الدوغمائية” أو بأنه متخلف، مما أثار الكثير من الاستغراب لدى الرأي العام، ازدراءً واستهجانًا، أليس ذلك مقلقًا ومخيفًا، وقد أوصلوا أنفسهم إلى أعمال لا تعطيهم خيرًا أبدًا، وكأنهم بحاجة إلى صدمة ليفيقوا، وهذا هو ما حذّر منه القرآن الحكيم في قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}
هؤلاء ماذا يفعلون؟ ما دورهم؟ هم يعومون مع التيار الصاعد، أبهرتهم أضواء الحضارة الخادعة، يهيمون بها غرامًا ولا يرون فيها موضعًا لانتقاد أو مكانًا لمأخذ، فلسفتهم الخاصة أن الفقهاء أو رجال الدين يحتكرون الآراء من أجل الإبقاء على دورهم الديني والاجتماعي والاقتصادي، وفرض سلطتهم وثقافتهم وأفكارهم على المجتمع، وهذا حكم غير موضوعي وغير منصف في مختلف مجالات حياتنا وخصوصًا في الجانب الروحي والاجتماعي، فما نراه واقعيًا أن كلماتهم الشاذة صورة تدل على ثقافتهم وأفكارهم، فهم أناس ينطبق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا} [الإسراء، 84] فهي تعكس أحوالهم النفسية ونظرتهم إلى هذه الحرية غير المحدودة، ولن يجدوا السند الشرعي المؤيد لتلك النظرة، ونحن مع الانفتاح الحي لا الانفتاح الميت حضاريًا، فالإسلام هو دين الانفتاح بمعنى الكلمة ؛ كما أنه هو دين الاستيعاب الموضوعي لمعطيات الآخر، طالما أنها لا تتصادم مع أصوله العقدية وثوابته الإيمانية، وأنا أسأل أولئك الذين ينادون بتلك الحرية، ما قيمة الحرية إذا هددت الثوابت الدينية والاجتماعية والإنسانية؟ وما هي رسالتكم التي تتقدمون بها إلينا؟ وهل لديكم تصور للمستقبل؟ كيف تفهمون الدين؟ إن الدين الإسلامي ثري بالقيم والمبادئ السامية لو أحسن الناس فهمه وتطبيقه، صحيح كل فرد في الوطن، له حقوق وعليه واجبات، وأن الوطن يحكمه قانون ودستور ومبادئ، لكن لا بد من التربية الأسرية التي تقوم على أساس ترسيخ المفاهيم والعادات الصحيحة، وبنفس الوقت حظر ومنع ما يهددها ويدمرها، إنها مسؤولية. مسؤولية البيت والمجتمع بينما العلماء أو رجال الدين لديهم تشريعات السماء، مهمتهم التذكير والإرشاد والوعظ، بغية سد باب الفساد والانحراف، وبالطبع هناك قيود دينية وأخلاقية وأعراف تحكم علاقاتنا الشخصية والاجتماعية، فالميول الشخصية السائدة في المجتمع تسمح بحدوث السلوكيات المنحرفة فيه، والنتيجة نتائج خطرة أدت إلى عزل الدين عن الدنيا، القضية فينا نحن كيف نفهم الدين، فإذا تطور فهمنا فلا تناقض بين الدين والدنيا، المشكلة أننا نؤسس فكرة في ذهننا نحن، ولا تخص الدين. القضية ليست قضية حرية وانفتاح، بل هي قضية اختلال موازيين الحياة، القضية هي في الدرجة الأولى فلسفية، وتتعلق بنظرة الإنسان إلى نفسه، وإلى دوره في هذا المجتمع، لهذا علينا التحكم بالجانب المنطقي التحليلي لكيلا نضيع بين الخيارات المتعددة، فنحن نتخلى عن كل القيم الجميلة من أجل شعارات خادعة جلبت لنا اليأس والهزيمة والانكسار في حياتنا، والجانب الواعي الذي يحلل ويفكِّر وينظر، وبالتالي قيمنا هي تدلنا على كيفية التصرف ومن دونها لا يكون.
لا توجد مشكلة ولا أحد يجادل في نص قرآني أو وصايا أو أحاديث من الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، كلها تدعو للخير والفضائل والاستقامة، لكن المشكلة في تفسيرك وتفسيري وتقديس ما هو مقدس، لكن البعض يمد هذه المظلة للأشخاص مما يتناقض مع القيم والأخلاق والإسلام، ومع ذلك هناك تراجع في قضية الالتزام الديني والأخلاقي.
ماذا يعني هذا الكلام؟ هل يوجد نماذج عملية؟ هناك مجموعة من النماذج التي لا يمكن استبعاد أي منها، ولكن يضيق المجال هنا عن سرد كل النماذج الحية لهذا الانفتاح الغربي، ويكفي أن نستشهد بظاهرة ظهرت مؤخرًا لها وجهات نظر مختلفة، بشأن تتبع ظاهرة “الكوفي شوب” النموذج الحي الذي أفرز أنماطًا من السلوكيات من نوع ما، في فئة كبيرة من الشباب والشابات، وهي “المستهلك” الأكبر لمنتجاتها، هؤلاء اعتادوا الذهاب يوميًا أو بشكل شبه يومي، حتى أضحت ظاهرة مجتمعية تثير الاستغراب والاستهجان، ثم ما لبثت تلك السلوكيات أن أخذت مع الأيام دورها في الصدارة كأزمة وعي مجتمعي لينشأ عليها من يغضب حين اعتبارها خروجًا عن القيم السائدة والتقاليد المعمول بها، وجود الشابة في محلات الكوفي شوب في أوقات متأخرة من الليل لا يفهم هنا إلا في معناه السلبي، كون البطلة هي من فئة الضحايا، ضحايا المجتمع أم العائلة، وعندما تركت البيت بعد وضع الأصباغ على وجهها، قد لم ينتبه أحد في عائلتها إلى الأمر أو لم يعره أحد أي اهتمام! ضاقت دنياها، وما كانت تتّسع إلا في “الكوفي شوب”، ولقد بلغ من أصحاب تلك المحلات أو المشرفين عليها من انحدار في الأخلاق أن سمحوا بتلك السلوكيات الشاذة أن تتفاعل من أجل الكسب المالي، والواقع أن صمت الآباء والأمهات على هكذا سلوك دون حسيب أو رقيب سيواجه بتفكك أسري واجتماعي وضياع خلقي.
فكروا قليلاً واستحضروا في ذاكرتكم مقدار “إيرادكم” من جراء المحافظة على القيم الجميلة، فهي كفيلة بحماية مجتمعنا من الخيبات التي يحتمل اختباؤها خلف كثير من التصرفات الشخصية وخاصة تلك التي تترتب عليها آثار اجتماعية وأخلاقية، لقد استطاعت اليابان أن تصبح دولة صناعية من الدرجة الأولى ومع ذلك فلا يزال اليابانيون يتمسكون بتراثهم الحضاري وأصالتهم التاريخية، التبدّل الذي طرأ على نمط حياتنا يعود في أصله إلى الانفتاح على ثقافات الغرب، والواجب الديني والأخلاقي يلزم رجال الدين والمثقفين بانتقاد سلوكيات منحرفة عن الدين ومؤذية للمجتمع.
ختامًا نشير إلى أننا لم نكن في هذه المقالة بصدد نقد فكر آخر، بل كان هدفنا لفت النظر إلى أمور وتحديات بالغة الأهمية بدأت تفرض ذاتها بإلحاح على مجتمعنا، وغايتنا أن نحرِّك الوعي بأن ما لا نعرفه قد يكون أهم بكثير مما نعرفه، وأن توخي الدقة في أمور تسيء إلينا، هُويّةً وسمعةً وتاريخًا من حيث لا تعلم تلك الأصوات التي تنادي بالحرية الشخصية، فليتهم يعيدوا النظر في مجمل خطابهم وتوجهاتهم، الكل يجمع على وجود أزمة وعي مجتمعي أفرزتها ظاهرة الإخفاق في تحقيق توازن سويّ بين معادلة الدين وتحديات العصر، فجزء من البلاء الذي يتعرض له مجتمعنا مرده المظاهر والممارسات التي تقترف هنا أو هناك، مما لا يقره شرع ولا تصونه أخلاق.