الله وكيلي عليك

موقف عشته منذ الطفولة ولازم ذاكرتي حتى الكبر، كان عبارة عن شجار ومشادة كلامية حدثت بين اثنين من كبار السن في حارتنا الصغيرة على أثر دَيْن لم يتم سداده، أحد طرفي الشجار رجل اسمه حجي ميرزا وكان عصبي المزاج والثاني حجي سلمان رجل يحظى بحب جيرانه وذلك لطيبته وأخلاقه وهو صاحب بقالة على قدها لكنها مدرّة بالبركة وتفي باحتياجات أهالي الحارة ويراعي الضعفاء من المعوزين فيبيعهم بالمؤجل ويفرد لهم حسابًا في دفتر المديونيات ولا يستعجل عليهم إلى أن تتيسر أمورهم المالية.

حجي سلمان يتمتع بذاكرة قوية لكنها بدأت بالتراجع مع تقدمه في العمر فصار يعتمد على دفتر قديم يسجل فيه جميع المديونيات ويضعه في أحد أرفف البقالة ويرجع إليه كلما دعت الحاجة، وبالفعل جاء اليوم الذي حضر فيه الدفتر ليكون ناطقًا وميزانًا بينه وبين حجي ميرزا الذي عطبت ذاكرته هو الآخر فلم يبق فيها شيء يجعله يتذكّر ما له وما عليه من ديون، ففي يوم من الأيام جاء لشراء بعض الحاجيات من البقالة لكنه تفاجأ بسؤال حجي سلمان عن الإيفاء أولًا بديونه السابقة التي ماطل كثيرًا في سدادها فنكر ذلك مدّعيًا أنه ليس في ذمته أي شيء وكان يتكلم بثقة متناهية، الاّ أن حجي سلمان أكّد له أن ذلك غير صحيح فكل شيء مسجّل بالدفتر فعرض عليه الحساب ليتأكد بأم عينه ومع ذلك تنصّل حجي ميرزا – كالعادة – وتهرّب وزاد الطين بلّة حين وجّه كلامًا خشنًا لحجي سلمان قائلًا “ما لك شيء عندي وأعلى ما في خيلك اركبه” وأدار ظهره ومشى وهو يُحَمحِمْ، في الأثناء لم يسكت حجي سلمان على ذلك فقد صبر عليه طويلًا فصرخ قائلًا “الله وكيلي عليك” وكررها بصوت عالِ لأكثر من مرة، وفور سماع حجي ميرزا لهذه العبارة تجمّد في مكانه وكأنما الأرض انشقّت وبلعته ولم ينطق بحرف واحد، كان لهذه العبارة وقع أشبه بالصاعقة عليه وعلى جميع الحضور من أهل الحارة الذين تجمهروا وصاروا يتهامسون ويتمتمون فيما بينهم وأولهم أنا الذي دسست بقامتي الصغيرة وسط هذا الحشد وهالني ما حدث في هذا المشهد الذي حدث للحاج ميرزا الذي ما أن سمع العبارة حتى عاد أدراجه مضطربًا مرعوبًا يتصبب وجهه عرقًا يطلب منه سحب هذه العبارة وطلب منه مهلة يومين بالكثير ويعيد له مبلغ المديونية، وانتهى المشهد عند هذا الحوار وانفضّ أهل الحارة إلى بيوتهم وأشغالهم وأنا عدت مسرعًا إلى بيتي وصور ذلك الموقف الساخن لا تفارق عيني، وفور دخولي للبيت صرخت أمي أيضًا بوجهي غاضبة على عودتي متأخرًا، أخبرتها بما حدث وسألتها عن معنى تلك العبارة التي قلبت كيان حجي ميرزا رأسًا على عقب، قالت لي “بعدك صغير على هالسوالف بكرة إذا كبرت بتعلمك الدنيا”.

بالفعل وبعد سنوات طويلة على مرور هذه القصة أدركت معنى عبارة “الله وكيلي عليك” التي ما زال صداها يدوي في ذهني وعرفت أن حجي سلمان قالها تحت الضغط عندما شعر أن حقّه سيضيع بدم بارد جعلته يستجير بالله ليكون نصيره ووكيله ليأخذ بحقه، وهذا ما جعل حجي ميرزا لحظة سماع هذه العبارة يتراجع ويعيد حساباته لأنه يعلم تمامًا أنه لو خاض هذه المواجهة فلن يسلم من سوء العاقبة.

*هناك رسالة جامعة للإمام زين العابدين (ع) تسمّى “رسالة الحقوق” وهذه الرسالة تعتبر أوّل رسالة قانونية جامعة دوّنت في التاريخ البشري وهي من الذخائر النفيسة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنسان وحقوقه كلّها وتشتمل على شبكة علاقات الإنسان الثلاثة مع ربِّه ونفسِه ومجتمعه وترسم حدود العلاقات والواجبات بين الإنسان وجميع ما يحيط به ويقول الأديب باقر شريف القرشي عن هذه الرسالة: «من المؤّلفات المهمّة في دنيا الإسلام فقد وضعت المناهج الحيّة لسلوك الإنسان وتطوير حياته وبناء حضارته على أسس تتوافر فيها جميع عوامل الاستقرار النّفسي».

لذلك علينا أن نعي أهمية تعلّم الحقوق الشرعية وضرورة تطبيق وترجمة أحكامها وضوابطها على الصعيد السلوكي وفي كافة مدار حياتنا اليومية حتى نبني مجتمعًا صالحًا وخلّاقًا وفاضلًا ينعم أفراده بالحب والعدالة والسعادة والرضا والأمان والاستقرار.


*مقتبس



error: المحتوي محمي