سيرة طالب (٤٤)

جولة في داخل تكوين البلاغة

تكلمت في المقال السابق حول ولادة كتاب (تكوين البلاغة)، وقد طلب مني بعض الأخوة أن أتكلم بشيء من التفصيل حول اللفتات الإبتكارية في الكتاب، فأقول إن الكلام سيكون حول عدة أمور :

الأمر الأول : المنهج
وهذا فارق رئيسي ومهم جدا، فكما لا يخفى عليكم أن المنهج البلاغي المتبع في المؤلفات القديمة ومن سار سيرها هو المنهج العقلي الفلسفي، وأما المنهج الذي اعتمدته فهو المنهج الاستقرائي الذوقي، وهو يعتبر نقله نوعية في منهج الدراسات البلاغية،
ولتوضيح ذلك نأتي باقتباس من كتاب مختصر المعاني للتفتازاني متحدثا – وهو صاحب المنهج العقلي – حول مفهوم الفعل والتجدد :
(لما كان التجدد لازمًا للزمان لكونه كما غير قار الذات أي لا يجتمع أجزائه في الوجود والزمان جزء من مفهوم الفعل، كان الفعل مع افادته التقييد بأحد الأزمنة الثالثة مفيدا للتجدد ).

أقول: إنّ عقلنة الفكرة غير العقلية يفسدها، وهذا في الواقع دخول في علم بمنهج علم آخر، وهو مظنّـة لاستنتاجات غير سليمة، وليست الظواهر البلاغية واللغوية خاضعة للقوانين المنطقية أو الفلسفية، وما ينبغي أن يكون هو الالتزام بمنهج استقرائي ذوقي، يعتمد على استقراء الظاهرة الأدبية ثم عرضها على الذوق الإبداعي لاكتشاف النظم التي تحكم عملية الإبداع الأدبي، بدلاً مـن استنتاج القوانين من شاهد واحد أو شاهدين، وربما كان الشاهد شاذاً في نفسه.

أترى لو اِنْبَنَت عملية الرصد البلاغي على منهج استقرائي ذوقي سنقع في هذه المعمعة من اللوازم غير اللازمة ؟؟

الأمر الثاني: الفصاحة
تُعرّف الفصاحة بأنها سلامة الألفاظ من اللحن والإبهام وسوء التأليف، وقد قام البلاغيون برصد النسج الصوتي غير الفصيح وذكروا لذلك عدة أسباب منها :
ظاهرة التنافر الصوتي والغرابة ومخالفة القياس والتعقيد المعنوي،  وقد اعتبروها حالة سلبية يوصم بها النص الأدبي.
ولكني في الكتاب حاولت الانتقال إلى الفصاحة في الخطاب الحداثي، وفي المنظور النقدي الحديث الذي يحاول إعادة فهم ما اعتبره البلاغيون نسج صوتي غير فصيح، وينقله من الحالة السلبية إلى الحالة الإيجابية. انظر للسلبية في تنافر الكلمات في النص القديم :
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفْر
وليس قربَ قبرُ حربٍ قبرُ

ثم انظر للإيجابية في تنافر الكلمات في الخطاب الحداثي، حيث شكلت هذه الظاهرة عند بعض الشعراء ديواناً كاملاً اسمه (آية جيم) وظف فيه حرف الجيم صياغياً لإحاطة الناتج بنوع من المعاناة فلنقرأ مثلاً:
كل جيمٍ جَثَتْ جيفةً تجتوي
وجفاءً يجفُّ
فكيف يُجَافِخُ بالجيمِ جلْفُ ؟
….

الأمر الثالث : رؤية نقدية حول تقسيم علوم البلاغة

مناطق علوم البلاغة ومناطق العمل : الذي نراه أن حركة الدرس البلاغي كانت حركة منتظمة وتكاملية تحاول استيعاب جميع طبقات النص الأدبي من حيث الشكل والمضمون، فعلم المعاني يعمل من خلال التحولات التي تصيب الجانب النحوي للنص، أي جانب التفاعل بين عناصر التركيب داخل الجملة.
لذلك يتواجد في منطقة التقديم والتأخير والحذف والإضافة والوصف وغيرها من التحولات.

بينما علم البيان يعمل من خلال التحولات التي تصيب الجانب الدلالي للمفردة، أي تحاول خلخلة المضمون المعجمي، فنراه يدرس المجاز والكناية والاستعارة والتشبيه.

وأما علم البديع فيعمل ضمن منطقة الشكل، فهو ينظم الحركة الصوتية والهندسة التوزيعية للبنى الكلامية،
وهذا النمط من الرصد الاستيعابي لمناطق النص يجعل الحركة المنهجية – في هذا الإطار – لدراسة الأقدمين حركة متقدمة حتى على صعيد الإنجاز الاسلوبي الحديث، لذلك يطرح البلاغة في هذا الكتاب وفقاً للمنهج المتعارف، مارين بهذه العلوم الثلاثة :
١ علم المعاني .
٢- علم البيان .
٣- علم البديع .
وقد حار البلاغيون حول العلوم الثلاثة وجعل بعضهم علوما منفصلة، والآخر اعتبرها ترجع إلى علم المعاني وأما البيان والبديع فهما فرعان.

يتبع …




error: المحتوي محمي