يَظُنّ الكَثيرون مِن صُفُوف المُتخرّجِين حَديثًا، أنّ نِهاية عَمليتي “التعلِيم والتعلّم” هو تَسلّم وثِيقة الشهادة الجامِعية المَنشودة، بُعيد الاستمتاع بمَراسِيم مَسِيرة حَفل التخرّج المُبهِج، ثم وَضعِها دَاخل إطارٍ فَخمٍ، وتعليقِها… وهَنالك تَنتهِي نِهاية ذُروَة الحَبكة النشِطة، كَما بَدأت أوّل مَرّةٍ، غَير أنّ مُتعة مِشوار التعلم الذاتي المُستمِر “غير التقليدي” الذي يُرافق قِطار العُمر، المُنسَاب عَرضًا؛ والمُنقاذ في طُول أُخدودِ سِكّة الزمن المُتسارِع؛ والمُزاحِم رِفدًا- بأريحيةِ رَيعِه الطّوعِي الوافِر- لِتغذية “شَرائح” سَعة مَخزُون العقل النابِض المُتيقظ؛ باغترافِ واستيعابِ الجَديدِ والمُفيدِ، مِن آفاقِ مّناهِل العلم؛ واستقطابِ يَنابِيع المعرفة المُتجَدّدة، مَع بزوغِ فجرِ إشراقة شَمسٍ عَاملةٍ كَادحةٍ، وطُلوعِ أَملٍ مُثيرٍ مُشرقٍ، يَقودَان سَويًا بفائق- تَرقّبٍ وتَأنٍ- بوُلُوجِ ونُفُوذِ غُرّة قُدومِهما الواعِدة الوضّاءة، إلى ذَائقَةِ التمتّعِ بمِيلادِ يومٍ وَليدٍ جَديدٍ، وقد اكتسَت بهما مَلامِح أسَارِير النفس المُستبشِرة تَطلّعًا؛ وارتدَت مَباهجُها استأناسًا، بأسمَى المُبادراتٍ الذاتيةٍ المُمنهجَة الحُرّة؛ لاستكشافِ واستشرافِ جَوهر أسفاطٍ حُبلى مِن أكدَاسِ رِزمِ وحُزَمِ المعلومات الجَديدة المُبتكَرة، في كُلِ بندٍ مِن بُنود العلوم المُتنامِية، وفنٍ زاخرٍ وافرٍ مِن زَخَم فنون، وجَوانب المعارف المُعاصِرة.
وفي بَادِئٍ ذِي بَدءٍ، لا بُدّ مِن التعرّف، عَن كَثبٍ، عَلى مَبادئ هَرَم مُكَوّنات النجاح التعليمي الذاتي، بَمرَاحِله الثلَاث الأسَاس: أوّلها مَرحلة تكوِين الثقة في النفس، وهي قاعدته الأساس والأَهم؛ بَعدها تأتي مَرحلة إدارة الذات، خُصوصًا في حَالة غِياب المُدرّس المُرشِد؛ واختفاء المنهَج التعليمي المرسُوم، كما في المَشهَد القائم في التعليم الأَكادِيمي التقليدي المُعتاد؛ وفي أعلى الهرَم تتربّع رَغبة مَرحلة التعلم الفعلية، وهي الجُزء الأَسهل في بُلوغِها، على رَأي مُؤلّف كتاب “علم التعلم الذاتي” * يتبعها لِزامًا، احتواء مُفردات مَسَار المنهج الحُر المَنشود تعلّمه، خُصوصًا، بَعد التمكّن التام، والسيطرة الذاتية على مَسَار المرحلتَين الأوليتَين: الثقة بالنفس وإدارة الذات…
ولَعلّ مَبدأ إدارة المُحتوَى المُراد تعلّمه، مِن أهم المبادئ المستهدفة العمليةالجادّة، في تَحوِيل ونَقل المعلومات الجديدة مِن حَافِظة الذاكرة “القصيرة المَدى” إلى مَثيلتِها “طويلة المدى”…بواسِطة جُزءٍ في داخل الدمَاغ البشري يُعرف عِلميًا “بقرن آمُون” أو “بالهيبوكمبس” بالإنجليزية، وتُعرَف هذه الطريقة، “بمُذكّرات كُورنيل” حَيث أثناء عملية البحث الذاتي الفعّال؛ والتعلم المُنظّم الفائق، يَقوم الدّارس بتقسيم وَرقة العمل البحثي إلى ثلاثةِ أقسامٍ رئيسةٍ: جُزء اليمين، وهو الأكبر مَساحة، تُدوّن فيه المُذكّرات المُستَقاة مِن درسٍ مُعيّنٍ، مِن المَصدر؛ أما الجزء الأَيسر مِن الصفحة، يَتمّ فيه تلخِيص الفِكرة الرئيسة، على شكل مُذكرات، وهو ثُلث المساحة المُخصّصة لتدوين المعلومة الأساس؛ وأمّا في الجزء السفلي، في أسفل الصفحة، وتُسمى الحَاشِية؛ فيُسجّل فيها الملخّص، أو أهمّ جُملة الأفكار الرئيسة، التي تُسنِد وتُسعِف بِطانة الذاكرة طويلة المدى، أثناء الرجوع إليها لَاحقًا.
وهُناكَ طَريقةٌ ثانيةٌ لإدارة طَبيعة مَسار المُحتوى، وهِي طريقة ذاتُ مَنهجٍ أكادِيميٍ مُتقَدّمٍ، تُعرف ب”SQ3R” وأتجرّأ هُنا، بتصرّف حَذِر، بتسمِيتِها “بالطريقة القرائية البحثِية الشامِلة” حيث كلّ حرفٍ فيها يَدلّ على إِجراءٍ أو مُهمّةٍ أسَاس، يَقوم بهمَا الدارِس ذاتيًا… وباختصارٍ مُقتضَبٍ: هي طريقة عملية إجرائية شَامِلة، قائمة على إِجراء المَسحِ الأَولي للكتاب، بما تَحوِيه فُصوله مِن عَناوين في قائمة مُدرَجة في صَفحات المُحتوى؛ وكذلك الخَرائط المُرافقة؛ وصَفحات الصور والنماذج التوضِيحية؛ وجَداول الأَحداث المُهمّة… ثمّ الوُصُول المُسدّد لَاحقًا، إلى مَرحلةِ طَرحِ الأسئلة الذاتية العامة للمتعلم نفسِه؛ بَعدها تَأتي تِباعًا، مَهارة القراءة المُتأنِية؛ تَلِيها مُباشرةً عَملية بَلورَةِ واستِظهَارِ لأَهم المعلومات والأفكار التي يَطرحها الكاتب؛ وأخيرًا، يَصل الدارس المُتتبّع إلى مرحلة المُراجعة النهائية؛ لرَصْدِ وتَثبِيتِ أهم المعلومات والأفكار الرئيسة في الذاكرة الطويلة المدى، في ذِهن المتعلمِ ذَاتِه.
وثَالِثة أثافِي إدارة المحتوى: هي الطريقة المَعروفَة بطريقة “ريتشارد فينمان” الفيزيائي الأمريكي، الذي ابتكرها، والحاصِل على جائزة نُوبل… وتتلخّص فيما يلي: تحدِيد المادة المُراد قِراءتها، وإِعادَة صِياغتها بطريقة سَهلة مُبسّطة، بعد قراءتِها واستيعابِها؛ وتَبسِيطِ جُملة الأفكار؛ وفَهمِها بشكلٍ جيدٍ؛ وكذلك القُدرة السلِسة على تقديمِها، وإفهامِها للآخرين، على قَدر مُستوياتِهم… ويُذكَر في سِجلّ التاريخ الأمريكي، أنّ الدبلوماسي البارَز، والعالِم المشهور “بنجامين فرانكلين” لم يُكمل سِوى عَامين مِن التعليم الرسمي، وكان قد استفاد مِن مَنظومة المَهارات وإستراتيجِيات التعلم الذاتي الفائق، في تطوير رَصِيد قدراتة الفكرِية والسياسِية والإبداعِية*
ولَعَلّه مِن الأَسهَل والأَيسَر، لِمَن أرادَ أنْ يَستهِلّ مِشوَار التعلم الذاتي، أنْ يَبدأ بتصفّحِ مَوارِد ومَراجِع الإنترنت أَوّلًا؛ ثم يَنتقل بالتدريج، إلى الاستاناس الذاتي بتالي المرحلة المُتقدّمة الأَوسَع: قِراءة الكُتب ذات الصلة؛ والبحث في بُطون المَوسُوعات المتخصّصة، ومِثلها المَراجِع العلمية… وعلى مرّ التاريخ؛ وهناك لفيفٌ مُتألّقٌ مِن ثُلّة صَفّ العَباقِرة العِصامِيين الكِبار، الذين كَانت لهم بَصماتٍ عَالميةٍ واضحةٍ، تَجلّت جُهودُهم الجبّارة، في إهدَاء وإسدَاء سَيلٍ هادرٍ مِن المُخترعات العُظمى، وكذا المُبتكرات الكُبرى، التي كان لها الأَثر العلمي المَشهود في تقدّم البشرية جَمعاء، أمثال: توماس أديسون، مُخترع المِصباح الكهربائى؛ وألكسندر بَل، مخترع الهاتف؛ والأَخوان رَايت، مُخترِعا أول طائرة… وقد كان لإستراتيجيات وخُطط تعلمهم الذاتي الذكي الناجع؛ ولُباب فِكرهم الذهنِي الفعّال، الأَثر الطيّب المَحمود، في بِناء وتأسِيس فائق شَخصياتِهم الفِكرية والعِلمية… ولَا أَدلَّ، وأََصدَقَ، وأَوثَقَ قَولًا ونُصحًا، مِن قَولَ نَبيِنا المُصطفى، عليه وعلى آله وأصحابه، أَفضل الصلَاة، وأتمّ التسلِيم: (اُطلبُوا العِلْمَ مِن المَهْدِ إِلى اللَّحْدِ)* . وفي قِمة أَسمَى مَراتِب ذلك العَطاء الإنسانِي المُتجَدّد؛ وأَنمَى مَطالِب ذُرَى أَسْنِمة ذلك الأُفق الوَاسِع، فَليتَنافَسِ صَفّ المُتنافِسِين؛ والله الهادِي إِلى سَواء السبِيل…!
* بيتر هولنز — علم التعلم الذاتي
* مؤسسة التعليم الأساسي- الموسوعة الأساسية الحديثة- شيكاغو 1939 المجلد الخامس ص 25- 327
* د. روحي البعلبكي- موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة ط 2 ص 444