رحيل بلا صوت

الرحيل بلا صوت هو أجمل هدية نقدمها لأنفسنا؛ لنختصر مسافات الألم، والإحباط، والفشل، حين نشعر بأن كلماتنا لا فائدة منها، ولا تصل لمن سنرحل عنهم.

إذا قررنا الجري يوماً ما، واصطدمنا بالجدار، أو فكرت في الطيران إليهم، واصطدمت بالسقف، أو حاولت السباحة نحوهم فتحول البحر إلى كتلة من الثلج فعندها فقط؛ سيصاب إحساسك بالإحباط، فارحل عنهم بلا صوت.

حين تكتشف أن الزمان ليس زمانك، والمكان ليس مكانك، والإحساس ليس إحساسك، وأن الأشياء التي حولك لم تعد تشبهك، وأن مدن أحلامك ما عادت لك، عندها لا تتردد، وارحل بلا صوت.

وعند الرحيل لا تضيع وقتك في الإبحار بأعماق اللغة؛ لانتقاء كلمات الحب، أو الاعتذار، أو الوادع، فكل الكلمات التي تولد لحظة الفراق لن تجدي نفعًا، إنما هي كلمات، ومحاولات فاشلة؛ لتبرير، وتفسير هروبك، وضعفك.

وعند الرحيل أيضًا بعضهم لا يترك لك مجالًا؛ لأن تقرر مغادرة حياته؛ لمحبته لك، والبعض يعترف لك بحبه عند الرحيل؛ ليبقيك معه، ويكتشف البعض الآخر أن مكانتك عنده ليست بالشيء اليسير بعد مغادرتك حياته، فيؤلمك، ويتألم معك باكتشافه المتأخر هذا، وحين نقرر الرحيل لا ندفن أنفسنا في الرمال كالنعامة؛ كي لا تلمع وجوه أولئك الذين أحبوك بصدق، وراهنوا على بقائك معهم، فخذلوك برحيلهم، ولا تبكِ بصوت لأولئك الذين أحببتهم بالصدق ذاته، فخذلوك وتركوا مسافات خلفك بيضاء، وشاسعة. يمارس أولئك طقوس الحنين إليك بطريقة خاصة.

فتأكد مهما كان هناك لون أو شكل لصمتك عند الرحيل، فرحيلك بلا صوت قد تسمعه كل الكائنات، إلا أنه لن يؤلم أبداً، ولن يصل إلا لأولئك الذين يشكل لهم وجودك شيئًا مميزًا.

للرحيل من نافدة وأكثر من باب، وتراودني كثيراً فكرة الطيران بلا أجنحة. الطيران بعيداً عن كل الأشياء، وإغلاق الأبواب جيدًا، والبدء من جديد في عالم جديد؛ برغم يقيني التام أن محاولة الطيران بلا أجنحة حماقة لن يغفرها لي التاريخ يوماً.

نعم فعلها مسبقاً المخترع عباس بن فرناس يوماً، ورحل بلا أجنحة لم تكن تجربته حماقة كما يظن البعض بل كانت فكرة متقدمة على عصره، وجاءت في زمن كان ثمنها أغلى مما توقع. إلا إنني أعترف هذه الخاطرة نسبة الرحيل بلا أجنحة، لكن كل المكالمات الهاتفية جعلتني أتراجع، وأبقى برغم ألم البقاء، والاستمرار في الكتابة؛ كي لا أخذل أمام أولئك الذين منحوني مساحة جميلة من الثقة، ربما راهنوا يوماً على بقائي.

* آخر الهمس؛ البعض يشتري إحساسك لأنه يحبك فقط، والبعض الآخر يبيع إحساسك؛ لأنك تحبه.



error: المحتوي محمي