لكل منا ميوله لمن يقرأ و يشاهد و يسمع، خلال عقد التسعينات الميلادية أقلب جريدة اليوم بحثًا عن كتابات محمد العلي و حسن السبع مع صورة لكليهما، و المفارقة سكنتني ظنًا في غير محله بين سطور حسن المليئة بحس الدعابة والفكاهة و بين خياله الصامت الجاد شبه المتجهم ، مع الأيام تبخر هذا الظن بمجرد التقائي به عن قرب ، و لحسن حظي مع حسن لم ألتقيه إلا في موارد الثقافة والأدب
و الفن (النادي الأدبي ، جمعية الثقافة والفنون ، المنتديات الثقافية، الخيمة الثقافية بمهرجان الدوخلة) .
ذات مساء أدرت جلست في منتدى الثلاثاء عام 2013 تحت عنوان ( التربية الجمالية بين الأدب
و الفن ) و كانتا عن يميني الفنانة شعاع الدوسري وعن شمالي الكاتبة تركية العمري وقد تحدثتا بإسهاب عن فحوى العنوان المحمل بالانطباعات وبالاستشهادات من أعلام الفكر و الفن
و انعكاساتهما على واقعنا المحلي و جدلية فهمنا و نسبة و عينًا للجمال ، و بعد أن أفرغتا الضيفتين بكل مافي جعبتيهما من خبرات و قراءات
في هذا اللقاء النوعي جماليًا و فنيًا على أمسيات تاريخ المنتدى ، طلبت من الحضور الإدلاء بمداخلاتهما و قد بدأها الشاعر حسن السبع مستفتحًا كلامه لشعر من ديوان إيليا أبوماضي ( رب قبح عند زيد هو حسن عند بكر، فهما ضدان فيه وهو وهم عند عمرو فمن الصادق فيما يدعيه، ليت شعري ليس للحسن قياس ،لست أدري) عندئذٍ تمنيت لو يكمل أبانزار بقية الطلاسم فقد شذني صوته الرخيم وإلقاؤه العذب ثم أردف : (إن نسبة الجمال تنسحب على القيم و الثقافة، وإن ذلك ليس مرتبطًا بفترة زمنية بعينها، فالمجتمع لايتذوق الفن في مرحلة ما لعدم
وجود تربية فنية لدى عامة الناس، و لكنه يكتشف ذلك لاحقًا فتتحول اللوحات الفنية للثروة و ذات قيمة عالية ) ، كل هذا الكلام يعيه تماماً فقد اكتسبه خلال دراسته في مدينة النور باريس ، بعد انقضاء الجلسة تجاذبت أطراف الحديث مع السبع و أبلغني عن مفاهيمه المختزنة حول الفن و الجمال فلسفيًا و إبداعيًا، و كم أدهشني بأكثر مماسمعت منه خلال مداخلته الموجزة أمام الحضور، سرعان ماقلت له تمنيتك كنت مع المتحدثتين لخرجنا بهذه الليلة بجلسة ثرية من كل الجوانب ، ورد بكلمات مقتضبة (لقد زودتاني بشيء ذا قيمة واستفدت منهن ) ، نعم شيمتك التواضع أيها العملاق .
ما أجمل أن يتحاور شاعران في أودية الشعر فكل الحضور يهيمون بقريحتيهما،
كان ذلك المساء في الخيمة الثقافية بمهرجان الدوخلة قبل ثلاث سنوات حينما قدم الشاعر حسن السبع أمسية للشاعر البحريني قاسم حداد، ليلتها تجلت القصائد مع كلمات التقديم ، ومن جملة ماقال السبع :(الشعر ومضة الدهشة وهو بيت الروح الذي يجمعنا في عناق أزلي لايمحو الخطايا،بل يتوجها بصفاء ممتع) ، وظلت في البال جملة ضمن تعريفه للضيف (كلانا ولدنا عام النكبة) ، ومن قهقهته الخفيفة التي لم تزل ترن في أذني اتساءل : أي رحيل تركته فينا يا أبانزار هل هو أشبه بالنكبة علينا ؟ ، ندرك بأن الموت حق ولكن الرحيل موجع .
ومن بين مرارة الفقد نتذكر باعتزاز الاحتفاء بك من لدن الأوفياء بتاريخ 4/3/2017في رحاب نادي الخليج بسيهات، لقد كرمت وسط حفاوة بالغة، حينها تفرست بعدسة جوالي في و جوه الحاضرين من أدباء
و شعراء و مثقفين
و إعلاميين ، و التقطت لك بعضًا من الصور ، والغبطة تكسو محياك إشراقة من نور ،
و حمدت الله كثيرًا بأنك كرمت و أنت على قيد الحياة، فأنشدت خاطرة في حقك بعد رجوعي للبيت وقد أخجلني ردك حين وصلتك من أخي الفنان كمال المعلم ولم أكن أتوقع بأنه سيرسلها لك، وهي بعنوان :
( لك باقة ورد )
ليلة وفاء تجلت أطيافها حسنا وبهاء، اجتمع المحبون والأصدقاء والخلان ورفاق الأمس، تلاقت الوجوه وتعانقت القلوب، التفوا كقوس قزح لتزف أحلى فرح، بأرق الكلمات وأجود العبارات، إطراءًا
و إعجابًا و تقديرًا لقامة معطاءة بفاعلية في مشهدنا الثقافي السعودي المعاصر …
غرد الشعر ،وترنم النثر ،ورقص الحرف بأعذب آيات الوفاء ، الوفي لأرضه ، الوفي لناسه، الوفي لإبداعه، ليلة مضيئة، إضاءت سماء سيهات بالمسرات ونبض الكلمات وأغلى التحيات في حفل بهيج في رحاب نادي الخليج، ليلة خالدة لنفس أبية ، لقامة شامخة أدبية، تفتح الورد حسنًا في روضها، و تفتق الزهر ربيعًا لعطائها، ياصاحب الهيبة، روحك باسمة، قلمك ناقد، يراعك راصد بحسن ظرافة
و تحليق خيال، لك منا تقديرًا من جلال ياراسم الجمال في ربوع الوطن، لك منا يا أبا نزار ياحسن، لك منا ياسبع عظيم الامتنان ،
باقة ورد حب منثورة على محياك .
بعدها جاءني الرد منك تثمين محبة من شخصك الكريم احتفظ به لنفسي ماحييت مثل إهدائك الوحيد العزيز على قلبي .
ويأخذني الميل السابق المنسحب وجدانيًا على اللاحق لكل كتاباتك المدونة حاليًا في (قطيف اليوم ) أحرص على قراءتها قبل غيرها من الكتابات ، وكان آخرها قبل تسعة أيام تحت عنوان (حتى أنت يابروتس ) ..في ذات اليوم الذي نشرت المقالة دخلت المستشفى ، أسبوع واحد حتى أتاك اليقين ،أصحيح ودعت الدنيا ياصانع البهجة ؟ وأقول من حسرة حتى أنت ياهادم اللذات تباغتنا خلسة من حيث لاندري ولا نحتسب
و دائمًا تفجعنا فيمن نميل إليهم و نحب ،
و عند ورود لحظة رحيلك عنا يا أبا نزار تداعت خاطرة وجع مني قبل اللحاق بالمشيعين الذين حملوك بأيديهم التي صافحتك مرارًا بتحيات من فرح
و بالأمس عند مغيب الشمس صافحت نعشك ذات الأيادي بمرارة حزن من وجع إلى مثواك الأخير .
أرسلت خاطرتي لكل قروباتي لأواسيهم
و يواسوني ، كلمات عجلى بدمع العين :
يا إلهي ماهذا الخبر الموجع..
فمنذ الصباح أتلقى التهاني بمقدم العام الهجري الجديد و بين الفرح بردود مثلها، يصفعني هذا الخبر المفاجىء ، لم أصدق الخبر، اتصالات بين أحبابه و من كانوا معه في المستشفى أكدوا لي بأنه فارق الحياة. آه ثم آه من وجع الرحيل يرحل عنا حسن السبع، يرحل عنا هذا المبدع، يرحل عنا هذا الإنسان الطيب ..صانع البهجة وثقافة الكلمة، أن تقرأ لحسن فأنت في روض الإعجاب والمسرة ، أن تقف مع حسن في محفل فسيهديك من روحه المحبة ومن مداعباته المرحة، و سيهديك الفرح ماتيسر له وإن كنت حزينًا أو مكتئبًا ..
أيها الشاعر، أيها الكاتب، أيها المثقف، أيها الروائي، أيها الفنان يازارع البسمة على الشفاه وفي دواخل القلب لكل من قرأك أو من عاشرك ، أن ترحل عنا فجأة ، بعد أن دخلت الخميس الماضي على عجل للمستشفى وكل دعواتنا لك بالشفاء تتسابق نحو السماء ولم نكن ندري بأن أيام سفرك في هذه الحياة الفانية تقترب من لحظاتها الأخيرة و بآخر خميس من حياتك تودعنا مع آخر يوم من السنة ،أي حزن يلفنا
و نحن نستقبل شهر الأحزان ، أُقلب المواقف واللحظات التي جمعتني معك وإهداؤك لي لأخر إبداعاتك رواية (ليالي عنان ) ضمن حفل تكريمك و التي لم أقرؤها بعد، و في ظني لحد الآن لم نقرؤك ياحسن برؤية عميقة تليق بكل ماأبدعت و سطرت، يأ أبا نزار لك منا سلام من فرح ومن وجع في آن، فرحين بما أغنيتنا من إنجاز وموجوعين برحيلك عنا لأن في جعبتك الكثير و الكثير من سردك المخبأ، ومن شعرك المؤجل ،
هكذا أظن و الظنون مؤرقة مع قسوة الرحيل ومرارة الفقد .
و سوف أسأل الذين يقدرونك حق قدرك ويعرفون حجم عطاءاتك ، و سوف أتأمل وأقرأ كل مايكتب عنك، و أنصت أمام اللذين يثمنون قيمة إبداعاتك الجمة وسوف أسألهم وأسالهم ولن أكف عن السؤال ! .
ياراحلًا عنا عساك من تكون ؟
رحلت عنا لكنك سوف تظل كالسدرة الوارفة تظلننا إبداعاتك
كلما صلتنا الشمس،
و سوف نشتاق لأدب بحرك الزاخر كلما تصحر بنا الجذب،
و سنلوذ لكلماتك الساخرة كلما ضاقت بنا الحياة، و داعًا ياحسن من مثلك كيف يعوض .
2-1-1439