في كلِّ عام هجري جديد يتسابق فريقان من مسلمي الشيعة لإبراز ما في جعبتهما من كلمات وأفعال؛ تمثل في وجدانهم الصورة رمزية أو الحقيقية لولائهم لعاشوراء الإمام الحسين (ع).
ومع قدم بعض هذه الأفعال في أيام عاشوراء، إلا أنَّ بعضها استحدثت نتيجة للصراع القائم بين هاتين الفئتين، وجاءت في أشكال متنوعة: تارة على هيئة كلاب تنبح، أو على هيئة حيوانات تزحف بين ضريحي الحسين والعباس (عليهما السلام)، أو على هيئة أسد يزأر بصوت حزين لمقتل الإمام الحسين (ع).
لقد سعى خطاب هذا الفريق أن يتكئ على الخطاب الأسطوري، ونشر تفسيره الخرافي حول واقعة كربلاء المؤلمة، من أجل أن يؤكد لجمهوره بأنَّ نتائج تفسيرهم لهذه الواقعة الأليمة تتعدى الفهم الطبيعي والواقعي للإنسان، وأنها تحمل من اللامعقولات ما لا يستطيع العقل البشري أن يدركه، أو يستدرك نتائجه ومعانيه.
لقد أراد هذا الخطاب الأسطوري أن يبتعد بالمعركة عن واقعها التاريخي والإنساني، من أجل أن يجعل منها مادة غير إنسانية، وأنَّ الطريق للوصول إلى تلك المقامات وتلك الخوارق لا تتم إلا من خلال مفسرين دأبوا على الغوص فهم أسرار هذه الشهادة الخاصة للإمام الحسين (ع). وهي شكل ومن أشكال تقوية سلطة رجال الدين بين الناس؛ لأنهم من خلال بث هذه الصور الغريبة في أذهان جمهورهم سيملكون معها أسرار النجاة ومفاتيح الايمان، بل وسبل العيش في الحياة الدنيا والفوز بالحياة الآخرة. وبالتالي فإنَّ أي تفسير عقلاني اجتماعي واقعي، هو تفسير مضلِّل يقلِّل من ربانية مسيرة كربلاء، ويحط من قدرها.
والحقيقة إنَّ أي (رجل دين) ينتمي إلى (بيت علمي) أو (مدرسة علمية) معنى ذلك:
١ . أن يحافظ على تاريخ جهاده ضد التفسيرات الخاطئة للدين.
٢. أن لا تكون حقائقه العلمية قابلة للاستخدام في الخير والشر على حد سواء.
٣. أن يكون قادراً على نقل مجتمعه من مقدمات ناقصة إلى نتائج متناسقة.
٤. أن ينتقل بمستمعه من العيش وفق أحكام الغريزة إلى العيش وفق أحكام العقل.
٥. أن يعي أنَّ ما يميز الإنسان عن الحيوان أنه لا يستطيع أن يصبح إنساناً إلا بتربية عاقلة كريمة.
٦. أن يعي أنَّ الله لم يخلقه حيواناً (كلب محمد) أو (كلب علي) أو كلب فاطمة) …؛ فلماذا أهان القرآن الكريم ذلك العالم المنحرف فشبهه بالكلب قائلاً: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}؟!
أيها الأحبة..
إنَّ من يشبهكم بالكلاب يريدكم أن تكونوا أوفياء لانحرافاته وكذبه. ومَثَلُه كمَثَلِ مَنْ قال فيهم الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}[التوبة: 34]. فالقرآن الكريم يقدِّم لنا نموذجاً للذين يملكون الصفة الرسمية للدين، ويجعلون من أنفسهم هداة للناس، في ما يحملونه وفي ما يمارسونه فيفرضونها على حياة الناس، بحيث يُخيَّل إلى الناس أنهم وكلاء الله على الأرض، وأنّهم ممّن يملكون توزيع حصص الجنة عليهم.
ولذلك طوَّروا من أساليب استغلالهم للناس بطرق متعددة جعلوها شرعية وإلهية. فيحلِّلون لهم الحرام، ويحرِّمون لهم الحلال. وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) -في حديثه عن واقع هؤلاء الأحبار والرهبان ومن على شاكلتهم- أنّه قال: “وَاللهِ، مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ، وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالاً، فَعَبَدُوهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ”.
والقرآن الكريم لم يتحدث عنهم بشكل سلبي من جهة كونهم حملة دين، بل لكونهم يستغلون الدين كواجهة للابتزاز والتضليل والتلاعب بحياة الناس.
إنّ القرآن الكريم يحذرنا أن لا نقع في مثل ذلك، فإنّ هناك فرقاً بين أن تثق بالشخص وبين أن تستسلم له، فيضلك عن الطريق السوي. إنَّ القرآن يرشدك إلى أن تفكِّر فيما يُلقى إليك.. فإذا كنت لا تعطي أحداً مالك إلا بعد أن تثق به، فكيف تعطي أحداً دينك من دون أن تثق به؟!.
إنَّ من الخطأ أن تعتقد بارتقاء الوعي في وسط يسلِّم فيه شبابه نفسه لمن يصوغ له ثقافة عقيمة.
إنَّ دور الإسلام يكمن في التوعية؛ “ليتعلم الناس أن يواجهوا الحياة بوعي؛ ليكون التأييد عن وعي وقناعة، وليكون الرفض عن دراسة واطلاع، بعيداً عن الحكم العشوائي. إنّ القرآن عندما يحدّثنا عن هذا الاستسلام الكلّي الذي كان يحصل لدى المجتمع الكتابي، من خلال استغلال كثير من الأحبار والرهبان لمجتمعهم، يريد لنا أن ندرس ما يشبه هذا النموذج في مجتمعنا الإسلامي، حتى لا نسقط أمام الجهل والتخلّف والاستغلال”.
ففي الصحيح عن مولانا علي بن الحسين (ع)، قال: “المؤمن خَلَطَ علمه بالحلم، يجلس ليعلم، وينصت ليسلم، وينطق ليفهم، لا يحدِّث أمانته الأصدقاء، ولا يكتم شهادته الأعداء، ولا يفعل شيئاً من الحقّ رياء، ولا يتركه حياء، إن زُكّي خاف ما يقولون، ويستغفر الله ممّا لا يعلمون، لا يغرّه قول مَن جهله، ويخشى إحصاء من قد علمه. والمنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، إذا قام في الصلاة اعترض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، وإذا جلس شغر، يُمسي وهمّه الطعام وهو مفطر، ويُصبح وهمّه النوم ولم يسهر، إن حدّثك كذّبك، وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك، وإن خالفته اغتابك”(أمالي الصدوق ص 493).