عاشوراء ..فضاء للإبداع

انقضى عام وأتى عام، ومع اطلالة كل عام هجري جديد يهل علينا شهر محرم الحرام ، شهر المصائب والأحزان، فتكتسي جدران المآتم والمجالس بالسواد ، وتنتصب الرايات الخضراء والحمراء، معلنة قدوم أيام عاشوراء، ومعها تبدأ إيقاعات أصوات الخطباء بالنعي المفعم بجر الونات ، أنين يملأ أجواء الأمكنة بالحداد المترع بالعبرات، تصدح الحناجر بأشجانها الآسرة من وقت تباشير الصبح إلى منتصف الليل. يلتف المجتمع بإحساس واحد، بوجدان واحد، قلوب تنبض بالأحزان ..مشاعر فياضة وعواطف جمة، نحيب .. وعويل.. وندب.. ولطم ..،
عزاء مثقل بالحسرات والآهات..لايرتوي إلا بانسكاب الدمع مدرارا، فداءً لأبي الأحرار ونفسه الزكية نبراس التضحية والشهادة . المجتمع في تواده وتراحمه كل يواسي الآخر (عظم الله أجورنا وأجوركم )، نفوس سخية، نيةً وقولًا وعملا، تساهم من جود دمعها وكرم مالها بتبرعات وعطايا قبل وأثناء أيام عاشوراء، صدقات المحسنين تحضر بذلًا في رحاب المآتم دعمًا للمحتاجين ، وتتألق المضائف في كل حي وحارة،تفيض بالخير والبركة. تهب النفوس لمجالس العزاء إحياء للذكرى والتماسًا للأجر والمثوبة، فتصغي لشرح تبيان أمور الدين والدنيا، مدعمة بآيات من الذكر الحكيم ومسندة بأحاديث خاتم الأنبياء والمرسلين وآل بيته وصحبه أجمعين ، زاد معرفي يتصاعد من أروقة المنابر فيشنف السمع بتلاوين الشعر والتاريخ والأدب والفكر، تسرد الحكايا من أمهات الكتب للموعظة وأخذ العبر، وتتلى قصص المعاجز لتبيان عظمة أعلام أهل البيت في دفاعهم عن حياض الدين نصرة للمظلومين والمستضعفين، مشاهد ممسرحة بانفعالات متوهجة تكاد أن تكون محسوسة غايتها ترسيخ القيم والمثل العليا والأخلاق الفاضلة، ويصل الحديث لذروته بجمل وصفية وبمقامات لحنية ويبلغ القول المجلجل مداه ويتحول إلى صور مرئية شاخصة أمام الحاضرين ، أصوات الوطيس تقرع ، وصليل السيوف تسمع، وسهام ورماح في الفضاء تسبح، وصهيل الخيول يحبس الأنفاس ، (العطش والميدان والحر ) ، نار الوغى تلهب النفوس وجحيم المعركة تستفز المشاعر والحواس، أحاسيس مترعة بالفداء، حماسة عز نظيرها، بكاء فجائعي يزلزل المكان وكأن ملحمة كربلاء تجري الآن، يضج الجمع بوشائج التجلي سفرًا عبر ذلك الزمن الخالد (ياليتنا كنا معكم .. سادتي)،عزاء إيماني مقدس يطهر النفوس ويزكي العقول ، طقس حسيني تتناقله الأجيال تلو الأجيال ،ليبقى نابضًا على مر الزمان ، شمس حق وضاءة، تحي جباه المحبين المؤمنين وعشاق الولاية والمنصفين .

هذه الفضاءات الحسينية انعكست على رؤية المبدعين بكافة مجالاتهم، كل مخيلة بما كسبت من قريحتها تفاعلًا خلاقا ، فأتت بصور بديعة، ومعان بليغة، ومجازات رفيعة، وصيغ فنية متنوعة.
وأحدث المجالات الإبداعية في مجتمعنا المحلي بروز المعارض التشكيلية الحسينية، حيث يتفاعل الفنانون والفنانات بمهاراتهم المتنوعة في الرسم والتلوين والنحت والتصوير الضوئي والغرافيكس والفن الرقمي (الدجتل) وإحداثيات الخط العربي ، كل حسب تصوراته ومقدرته في تجسيد معاني الحب والتضحية والفداء والولاء ، معارض فنية تتطور عامًا بعد عام وتتبلور في تنمية ذائقة المبدعين والمتلقين، بعد أن أدرك القائمون والمنظمون على إعداد مثل هذه المعارض ببعديها المكاني والزماني في تشكيل رؤية فنية حسينية تخاطب لغة العصر، عصر (سلطان الصورة) لتصل لمختلف الأجناس والأعراق ، هكذا هي اللوحة صورة صامتة لكنها حية ناطقة بلغات العالم ، فنانون وفنانات ينهلون من نهر ملحمة كربلاء المتدفق عبر الأزمنة، يستوحون صورًا معبرة لملحمة خالدة ، إنها مَعين لن ينضب أبدا ، عاشوراء فضاء وارتواء للإبداع وعشق متجدد كل عام .

 


error: المحتوي محمي