كثيرًا ما يصطدم الآباء برفض أبنائهم -وخاصة البنات- زواجه بعد وفاة أمهم، وهو أمر يحدث للأم أيضًا -ولو في الحد القليل للأم- عند وفاة والدهم، والتي عادة ما ترفض فكرة الزواج مرة أخرى بحجة الخوف على أبنائها وهي بعيدة عنهم، أو من أجل الحفاظ عليهم والتفرغ لتربيتهم والاعتناء بهم، حتى لا يشعروا بفقدان الأبوين معًا.
أما في حالة الأب فإنه لا يمكن تبرير هذا الموقف المغلوط والمتطرف، ومصادرة حق من حقوقه الأساسية كإنسان أولًا، ثم كرجل له الحق في الزواج وخاصة في حالته هذه.
من غير المعقول مصادرة هذا الحق، وحاجة من حاجاته الأساسية، لأسباب وهمية وواهية يتشدق بها الأبناء والحجة -هذه قسمتك وهذا نصيبك وهذه أمنا لا نرضى عليها- القسمة والنصيب لا ينتهيان بالموت ولا بالعمر ولا الزمن ولا القضاء والقدر الذي قضى بوفاة زوجته ليأخذ هو نصيبه من ذلك ويموت حيًا، فيما هم ينظرون وكأن الأمر لا يعنيهم، فقط يقفون مع والدتهم التي رحلت وضد والدهم الذي لا يزال حيًا وله حق الحياة المكتوب والزواج المشروع مع دواعي الأسباب، فلماذا لا ينظرون له بنفس النظرة العاطفية التي ينجرفون بها كليًا نحو أمهم التي رحلت ويحرمون منها والدهم الحي.
الموقف جدُ يدعو للاستغراب والأسف من هؤلاء الذين يقفون ضد حقٍ شرعي وإنساني أعمى، لا ينم عن نضج وفهم وإنصاف، فأولًا وأخيرًا هذا أبوهم، وقد رأوا عيانًا كيف كانت حياتهم مع وجود امرأة وإن كانت أمهم، من الاستقرار والدفء والمحبة العائلية، ولا يعني دخول امرأة أخرى للمنزل أنها سوف تقلب حياتهم رأسًا على عقب إلى نكد وخراب، بل على العكس تمامًا، خاصة مع وجود أطفال صغار، ومع مطلب استمرار راحة الأب بتلبية حاجاته الشخصية والعامة للمنزل، وأيضًا حاجاتهم هم كصبية وصبايا لا يزالون يقطنون المنزل، ويحتاجون لأمور كثيرة ومهمة ليس بوسعهم القيام بها حتى مع وجود عاملة في المنزل افتراضًا، ولا يعني أن تكون هناك أمثلة لزيجات فاشلة من هذا النوع انعكست سلبًا على الأبناء أن يكون كل النساء كذلك، ولربما زواج أبيهم من أمهم كان غير موفق أيضًا.
روح المنزل بساكنيه والمرأة الزوجة جزءٌ لا يتجزأ من هذه الروح وهي نصف حياة ودين للرجل، وكلما كبر هذا الرجل احتاج للمرأة أكثر وليس العكس، ولكل مرحلة عمرية حاجاتها، والمرأة هي الجزء الأساس والأهم، خاصة لمن دخل عالم الزوجية، فبدونها لا يمكن للرجل أن يصمد كثيرًا وإن تظاهر بذلك لأنه سرعان ما تخذله الوحدة والصمت والغربة والخوف والسجن في قفص الحرمان، إلى أن تسوء حالته النفسية والصحية، بعد أن تركه الأبناء لمصيره وإن كان يعيش بينهم أو مع أحدهم، وعندها لن يكون أمام هؤلاء إلا إيداعه في دار العجزة إن وجدت، وقد أصبح عاجزًا بالفعل، ينتظر مصيره المحتوم.
من حقه الزواج، ويجب ألا يخضع لإرادة أحد، وهو يتحمل النتيجة إذا ما رصخ للأمر الواقع برفض أبنائه زواجه، ومن حقه الحفاظ على أطفاله الصغار بوجود امرأة يختارها بعناية له ولهم لتكون أمًا ثانية لا يشعرون معها بفراق أمهم الأصل، وكذلك تكون زوجة للرجل الذي لا يريد أن يقضي بقية حياته أرملًا عن قصد وترصد من أقرب الناس إليه، تحت حكم عاطفتهم تجاه أمهم، وكأنهم ليسوا من صلب رجل اسمه الأب.
وقفة:
نحن مسؤولون ومحاسبون عن الوقت الذي نهدره من أعمارنا بلا قيمة.
عَنِ النَّبِيِّ الأَكرَمِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: “لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ؛ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ”.