قبل أكثر من ثلاثين سنة، أسستُ هذه المكتبة، عسى أن تكون شمعة تضيء ظلام الجهل، وتطرد وحشة الأمية، ولتكن خطوة لنشر الوعي في مجتمعي.
في أول أيام افتتاح المكتبة، كانت هناك فتاة تبيّن مع الأيام أنها حادة الذكاء، رقيقة كنسمة ربيعية، متميّزة كوردة في وسط صحراء، تتحدّث بهدوء حفيف الشجر، كانت ترتاد المكتبة وتستشيرني: ماذا أقرأ؟
وكنت أقترح عليها في الأدب والفكر والثقافة والتاريخ حسب خبرتي فيما قرأت.
إنها مريم ابنة الحاج علي، جارنا الذي عُرف وتميّز بين أقرانه بخلقه العطر كالمسك، وبثقافته الواسعة كالبحر، وحديثه الجميل الذي لا يُملّ.
كان (رحمه الله) في زاوية من زوايا الحركة الثقافية سدًّا منيعًا في وجه الأفكار المنحرفة، يحاججهم بالعلم الواضح والمنطق السليم، فكانوا يتحاشونه ويحذّرون منه.
كان يمتلك مكتبة متنوعة، تحوي آلاف الكتب، وعندما توفي استحوذ عليها ابنه المصاب بمرض (وهم المعرفة) فصارت مكانًا للتباهي وتكديس الكتب، ولعلّه المعني بالجملة المشهورة: “وقد ورث الشيخ كتبًا من أبيه لكن ما قرأها”.
أما مريم فقد ورثت كلّ أخلاق أبيها ووعيه وثقافته.
وقد ربطني بها حبٌّ من طرف واحد، لم أستطع التصريح لها بحبّي، وبتقديري لعقلها وفطنتها، فما إن استوت ثمار الحب وحان قطافها حتى خطفها ابن عمّتها؛ تزوجها وسافرت معه لإكمال دراستهما في الخارج.
اليوم أجلس في مكتبتي، أتأمل حال الكتب، ويحزنني انقطاع صلة الناس بها.
فلا يزور المكتبة اليوم إلّا من يسأل عن قرطاسيات، أما قسم الكتب فقليل من يقف عنده.
قطع صمتي سلام انطلق من فم لطيف، يحمل روحًا جميلة، وتبعه سؤال عن ديوان شعر مع تقدير للسامع: لو سمحت عمّو.. هل أجد لديكم ديوان الشاعر محمد الماجد (مسند الرمل)؟
أجبتها بتلهّف: نعم موجود، وهو لك هدية.
نظرت لي بعينين مذهولتين تكشفان عن روح متألقة، ونفس توّاقة للمعرفة، وكأنّها تسأل: لماذا؟
تركتها في حيرتها وقصدت ركن الشعر وناولتها الكتاب، وأنا أقول: لو كان الشاعر هنا لأهداك الديوان؛ لأنه يقدّر قرّاء الشعر ومحبّيه.
وفي نفسي:
ولعلّه قال:
ديوان شعري كلّه غزلْ
بين العذارى بات ينتقلْ
احتضنت الديوان، ثم وضعته في حقيبتها اليدوية، وصارت تتأمل المكان، وقالت: كأنني زرت هذه المكتبة سابقًا.
فرمتني سهام الذكريات وأصابت جرحًا قديمًا، لأعود لمريم، فهذه الفتاة تحمل الملامح الرقيقة نفسها، الصوت الناعم الحنون، اللطف في التعامل، الوجه المبتسم والروح الدافئة.
قلت: لقد زارتها أمك قبل ثلاثين سنة.