في ظلال فقه العلاقات الاجتماعية

ورد عن الإمام الباقر (ع): إن المؤمن أخو المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء به الظن (تحف العقول ص ٢٩٦).

ما أجمل تلك الروايات المبرزة لما تكون عليه العلاقات بين أفراد المجتمع المتآخين؛ وذلك لينعموا بعلاقات تسودها المودة والاحترام والاستقرار متجنبين كل ما يكدر معيشتهم ويسبب الخلافات والخصومات بينهم، إذ أنها تبين مفهوم الدين بعنوان شمولي يجمع جوانب حياة الإنسان العبادية والمعاملاتية، حيث يقصر البعض – وهمًا – مفهوم الدين على الجانب العبادي بما يشير إلى فروع الدين والاهتمام بأدائها وتعلم أحكامها؛ لتكون في صورة إسقاط المسؤولية عن كاهله، متناسين الجوانب الأخرى المتعلقة بالجانب الأخلاقي والاجتماعي والمسؤولية الملقاة عليه في حفظ حقوق الآخرين والتعامل معهم بالحسنى، لا من باب التفضل والتجمل بل لأن ذلك التعامل هو المحك الحقيقي المظهر لما يحمله بين دواخله من قيم ومنظومة تربوية تمنعه من الانحدار إلى التعامل بمعيار الهوى والمصالح المقيتة (الأنانية)، بل وقد يصل الأمر إلى مرحلة المزاجية والعبثية فلا يقيم وزنًا للحالات الإنسانية والآداب الاجتماعية، فيتعامل وفقًا لمنطق مغلوط يتعلق بالحرية المزعومة والتي يراها التعامل بما يتوافق ونفسيته السيئة، وإن أدى ذلك إلى التجاوز على شخصيات الآخرين وأذيتهم وتوجيه الكلمات القاسية بل والقبيحة إليهم، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى التلاعب في إعدادات شخصيته – المفترض أن تكون سوية – فيجد متعته وراحته في التعامل القاسي والصعب مع الغير والتجاهل له مرة والجدية في الحديث معه مرة أخرى، ولنعلم أن الإمام الباقر (ع) من خلال هذه التحفة السنية يصيغ منظومتنا الفكرية والأخلاقية والاجتماعية وفق التوجيه والإرشاد الصانع لشخصياتنا السوية والمتكاملة، فيهذب أنفسنا ويتجه بها نحو الاتزان الانفعالي والبعد عن التعامل بالأهواء وفقدان ضبط النفس مهما كانت الظروف الحياتية والنفسية التي نقع تحت وطأتها، فللآخرين حقوق يجب المحافظة عليها دون التذرع بمبررات واهية تفسح المجال لنا لأذيتهم، فإن الشيطان الرجيم يجد في الاحتكاكات بين الأفراد ومخاطباتهم وتعاملاتهم فرصة لا تعوض في بث سمومه وبث حفر مكره، من خلال التسويل للفرد باستباحة شخصيات الآخرين فلا يجد غضاضة ولا حرجًا في شتم هذا والحديث بسوء عن ذاك.

أولى علامات الحصانة الاجتماعية هي الترفع عن عالم البذاءة والسفاهة وتعويض النقص النفسي عن طريق قذف حمم الكلام تجاه الآخر، وبالتأكيد فالشتم – نفسيًا – يعبر عن شخصية مهزوزة وضعيفة تجد في السب والقذف وسيلة لإثبات الوجود والقوة ولتجنب أي تطاول عليه، وبالطبع فإن الشخص الواعي يرسم أهدافه في الحياة ويمضي قدمًا بعيدًا عن الترهات والثرثرة التي لا معنى لها، وأما الشخص الكسول والضعيف في قدراته وإمكانياته فيحاول تحطيم الصورة الجميلة المرسومة للشخص الناجح في أذهان الآخرين عن طريق تحطيمها بالكلام الناشز والشتم بأقذع الكلمات، فالإمام (ع) يحذر من هذا الانحطاط الأخلاقي ويدعو إلى الترفع عنه مهما كانت الدواعي له، سواء كانت من جهة الاختلاف الفكري أو السلوكي أو الخصومة على أمر معين فكل ذلك يمحوه الباطن النزيه.

والعلامة الثانية هي حرمان الآخر من العطاء المادي أو المعنوي بسبب إفرازات خلافية سابقة تدعوه إلى تحيّن الفرصة حتى يقع تحت قبضته، فإذا كانت حاجته عنده تحركت شرايين التشفي والانتقام محركة له نحو رد الصفعة بصفعتين وينتظر اللحظة التي يراه فيها منكسرًا ومذلولًا، فالحرمان يكشف عن شخصية وضيعة قد تشبعت بالأحاسيس المريضة وتضمر الشر والسوء، وبدلًا من الاهتمام ببناء شخصيته ومستقبله تراه يحول لحظات عمره إلى فعل انفعالي وردة فعل أشد منها.

وفي النهاية يحذرنا باقر العلم (ع) من آفة أخلاقية تنخر وتفت في عضد العلاقات الاجتماعية المستقرة والراسخة وهي سوء الظن، فيتعامل الإنسان مع تصرفات وكلمات الآخرين في مقاصدها ومؤداها إلى تحليل ورؤية خاصة منه، تقوم على أساس هواه وعين الريبة والشك التي يفسر بها كل شيء من حوله، وبالتالي فإن أعمال الخير وصنع المعروف والكلمة الطيبة والموقف الحسن من غيره يقوم بتأويله بحسب نفسه المريضة، فبنظره الأعور لا يوجد هناك من هو من أهل الطيب والعطاء والإحسان، بل كل المحركات للمواقف – حسب زعمه – تخضع للمصالح الضيقة وإن خالفت موازين القيم الدينية والإنسانية.



error: المحتوي محمي