بعد كلّ مرحلة من الحياة، يولد حلم جديد، الآن، انتهت الحياة الجامعية، الأمنية باتجاه العمل الوظيفي في سلك التعليم، الفرحة غامرة في قلوبهنّ، مساء الخميس، تقيم الجامعة حفل التخرج، إنَّهن السعادة ذاتها.
جلست حنان، وعبير، وياسمين في الليلة الأخيرة، يحملهن الشّوق إلى الحياة العملية التي ستُشرق في حياتهنَّ.
تقُول ياسمين: في القادم من الأيام، ومع الاستغراق في العمل، والحياة الزوجية بين أحضان الأسرة الوارفة الملامح، سيتحول الماضي المليء بالحُزن والأمل لمُجرد ذكريات نستنطقها؛ لنسأل بدهشة؛ لماذا اعتدنا الحُزن حينها؟! لماذا جرت دُموعنا ذات لحظات؟! لماذا لم نستطع النوم في بعض اللّيالي؟!
كفراشة تبتسم حنان، وتُعلق: إن المواقف الحياتية تجارب تسكن الذاكرة، تكون بمثابة الوسادة التي تأخذ الإنسان إلى التّأمل، إلى الإغراق، لينطلق باتجاه ما يحلم به، ويسعى جاهدًا إلى تحقيقه.
في كلّ زاوية تراه، تستذكر كلماته، يشدّ أزرهم، هنا كان يجلس، هنا كان يُلاطفهم، لا يخبو طيفه عن ملامحهم عن حياتهم اليومية..
أحيانًا، تكون الزوايا رفيقًا، تبُوح لها بما لا تستطيع أن تبُوح به للآخرين، تستنطقها، تكون وحيدًا عن الآخرين، وتتفرد بذاتك، تُمارس وجٌودك، كفعل، يقابلها فعل آخر.
هكذا كانت عبير، ثمَّة مواقف في الحياة، تجعلنا نتوقف عندها، لتُصبغ ملامحنا بألوانها، وذواتنا بإيحاء ما تُلهمنا، وقلوبنا بما تغرسه فيها، وعقولنا بنهر أفكار، تستجدي ما نهفو إليه.
بعد وفاة أبيها، أصبحت عبير أكثر انطواء، مشغولة بأمها، وأختها المريضة، تنتظر الإجازة الأسبوعية بفارغ الصبر، حتى تكون إلى جانبهما، جلّ تفكيرها، تسكبه في أسرتها، ابتعدت عن متجرها، الكثير يسأل عن أناملها في إعداد الحلويات، لم تعد لها رغبة في القيام بإعدادها، إلا أن صوتًا داخليًا يدعوها إلى المُبادرة.
الوحدة زاد المُتعبين على أفق الوجع، يمشون، تُخضب أنفاسهم الأمنيات، وتصقلها التّجارب، التي لا تنفك، تُهديها الورد والريحان، توقفت كثيرًا عند كلمات الفيلسوف “نيتشه”، التي مرّت عليها ذات لحظة من لحظات القراءة، لتهيم في حياة الفلاسفة، والمُبدعين، تختصر المسافات، كما أخبرتها ياسمين.
يقُول “نيتشه”: الوحدة لا تزرع شيئًا، إنها تجعل الأشياءَ ناضجة. الموهبة، تأتي هاجسًا، يتطفل باستمرار باختلاف ألوانها، كالكاتب لا ينفك عن الرغبة في الكتابة، تستدعيه في كلّ الأوقات، أكان مٌقبلًا عليها أم مُدبرًا، كالفنان، الذي تٌلاحقه الريشة في خيالاته، في تصوراته إلى الحياة، في خلجات قلبه، ليخرج عن المعادلات الرياضية إلى فضاء اللا شيء، ليخلق منه شيئًا جماليًا.
صرخت في داخلها، لابد أن أعانق الأمل في حياتي، لابد أن أغرس البذرة في تُراب الصعاب، لأقطف منه الثمار، وأرشف العسل المُصفى.
تُشرق ملامحها، تفتح نافذة حُجرتها، تغمض عينيها، تُعيد فتحهما، وتهمس بصوت خافت: إن الأمل، كقوس قزح، يسر الناظرين إليه، هل تفهمين يا عبير؟ أشعل مصباح حُجرته، تُغريه الظُلمة ليكتب، حتى في طُقوس كتابته، يظل مجهولًا إلا من ذاته، حينما تنظر إليه، ينتابك العجب المُفرط، تصرفاته غريبة، يتعامل معك من عالمه، وليس من واقع عالمك، يخال إليك حين يُحدثك، بأنه يُحدث شخصًا آخر من خلالك، كمُغازلة شاعر إلى الغيمات، وهو يطمح إلى عناق حُبيبات المطر.
لابسًا نظارته، يُحدق في اللا شيء، يسقط ضوء المصباح على عينيه، لاحت ملامح في المرآة، حدّق مليًا، وكتب رسالة بعثها إلى ياسمين على بريدها الإلكتروني، ليُشاركها فرحتها بالتّخرج، أو بالأحرى، ليمنحها منه تذكارًا، يُخبرها بأن الأحلام، سوف تتحقق ولو بعد حين، أراد أن يخرج من صمته، من فوضى مشاعره، وأنين انكساراته، أراد أن يشعر بلغتها، بغُربتها، أراد أن يُواسيها لما ستُلاقيه.
أحقًا، للمُتعلق باليراع حاسة أخرى، تُشبه الإسفنجة، تعلق بها الأشياء، ما به هذا المجهول من الحس، المعروف بكل تفاصيلها له، أن يقرأ لغة الألم فيها؟! أيكون عاشقًا، لم تُنصفه الحياة، ليظفر بمعشُوقته، التي يهوى؟! أم جعلته الحياة، يُتقن استشعار الألم في الآخرين؟!
كتب في رسالته، التي ذيّلها لأول مرة بتوقيع، جاء، كطلسم أشعل فُضولها أكثر عن ماهية هذا الكاتب.
شيء من التيه، يُغرقني في دنيا، تشي بالعشق.
كالماء، يُغرقنا معًا، ويُلهم أصابعنا البوح، هل تشعرين بي الآن، لأبعث اللُحن بين أصابعكِ، لتزهو، كفقاعة تلفني، لألمح وجنتيكِ، ويديكِ في عناق أصابعي، تُهدي الأبجدية أجملها خطوات، ويديِكِ كلُّما استفاقت على وجعي، كان الحنان كلّه في يديكِ.
إن ما نعانيه يا رفيقة اليراع، والظلّ، يكمن في الخلط بين المفاهيم، وعدم المعرفة للمُصطلح، وعليه يقُوم الفعل بلا وجهة صحيحة، نحن غُرباء عن لغة المعاني، نحن نشتاق إلى أنفسنا، إلى الفرحة، التي ستأتي.
لم أفرح في حياتي، كفرحتي هذا المساء، وسواد عينيّ، يُبصر في ملامحكِ انتشاء السّعد، أخبرتكِ أبجديتي مُنذ أول ما خطته بأن لك في مُستقبل الأيام ما يُبهج عينيكِ، ويجعلك تفتخرين بنفسك.
أقدم لك باقة من الأحمر والبنفسج، أرتبها من أوجاع قلبي، الذي أضناه الألم.
أعلم يا رفيقة الدّرب في الكلمات أن في جُعبتك سُؤالًا، يعقد لسانك بضع وقت، تتأملين، سأخبركِ، الآن سأقول:
أعرفكِ على نفسي جاسم محمد، رجل بسيط جدًا، أعمل في بيع الكتب، في مكتبة وسط المدينة، أقضي فيها مُعظم دقائق يومي، اقرأ، وأمارس الكتابة، لا أتحرك كثيرًا خارجها إلا نادرًا؛ لأني لا أستطيع التّجول وحدي، أعاني من إعاقة في قدميّ، مقعد على كرسي مُتحرك، اعذريني لا أستطيع أن أبوح أكثر عن إعاقتي؛ لأن الدّموع، ستُغرقني، لأحزن أكثر، وتُحيطني ما حدث للمرة، لا أتذكر عدد أرقامها، لطالما هربت منها، لأجدها الآن، تحضر في قرطاس أكتبه إليكِ.
نعم مُعاق، ومُقعد على كرسي، ولكني أمارس الكتابة.