تأمّلات في واحدة مِن اقتباسات الأديب: جورج برنارد شو

ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأَيت تأمّلاتي جلّ أوراقي

1. إِلَى مَن يَوَدّ التعرّف عَلى لَمحةٍ مُوجزةٍ عَن سِيرةِ شَخصيةِ الأدِيب الإيرلندي الساخِر: جُورج بَرنارد شُو… فَهو مِن مَواليد دَبلِن عام 1856- وتُوفِي عام 1950م… كاتب دِرامِي مَسرحِي؛ اشتهر بنقدِه اللّاذِع، مُنحدِرٌ مِن أُسرَةٍ… “بُروتوتِستانتِية” فقيرة، تَسبّبت حَالتها المادِية فِي عَدم إتمام دِراسة ابنها الشاب، في عُمر الخامسة عَشرة؛ وبَعدها، اشتغل الابن الشاب في مُقتَبَل صِباه عَاملًا، في مّكتب؛ وبَعدهَا مُحاسبًا في مكتبٍ عَقاريٍ… وفي عام 1872 غادرَت أمّه: المُغنّية، ومُدَرِّسَة المُوسِيقى زَوجها الحمِيم، وغَير الناجِح في عَمله، ونزحَت إلى لندن، برفقَة ابنتيها، وقد لحِق بهم الشاب جورج، بعد أربع سَنوات. وعِندمَا بلَغ التاسِعة، شجّعه والداه، فكَتب خَمس مَسرحِيّات هَاوِية… وفِي العشرينيات مِن عُمره بَرَع في النقد المُوسيقِي والأدبِي؛ ثم انتقل بَعدئذٍ إلى المسرَح، وألّف مَا يزِيد على خَمسين مَسرحِيةٍ، ومِمّا يُذكر أنّهُ انخرط في العمل السياسِي؛ وبدأ نشاطَه في الحركة الاشتراكية؛ وانضمّ إلى الجَمعية الفابِية الإنجليزية، لنشرِ المبادئ الاشتراكية السلمِية؛ وفي عَام 1925 حَصَل على “جائزة نُوبِل” في الأَدَب. وقد نَالت مَسرحِياته شُهرَةً في عَددٍ مِن الدول، خاصّةً في الولايات المتّحدة الأَمريكية وأَلمانيا.*

2. ولَعَلّي هُنا أشِيد بمَقولَةٍ واحِدةٍ مِن المَقُولَات الشائقَةِ المَنقُولَةِ عَن المُحتفَى به- في سُطُور خاطِرتي المُتواضِعة- النابِغة: جُورج برنارد شو، والتي لَفتَت انتِباهِي؛ ورُحْتِ، في إثْرِها، أتأمّل، بتَفكّرٍ وتَدبّرٍ، لأَوّلِ وَهلةٍ، فِي نَمطيةِ هَيأتِها: ( العَرَبةُ الفارِغةُ أكثرُ جّلبةً مِن المُمتلِئة)… فلم أمُرّ بمُحتَوى دِيباجتِها التصويرية الجَاذبة، مُرور الكِرامِ كالعادَة، بل عَلِقت صُورةُ العربة التقليدية الحُبلى، التي يجُرها حِصان، أو عَدد مِن الأَحصِنةِ، بناصِيةِ مُخيّلتي، كَما هُو الحال في أوروبا آنذاك؛ ورُحْت، مُجدّدًا، أتتبّع بافتِتان واجتِذاب، رَشقاتٍ دَافقةٍ مِن سَيلٍ جَارفٍ مِن وِمِيضِ أنصعِ “الفلاشات” الضوئية، المُنطلِقة بقوةٍ، مِن كلّ حَدبٍ وصَوبٍ، … وفِي أُنْسِ حَضرَةِ ذلِك المَوقِف الجاذِب بمَقاسَات مَسارَات حُدُودِه- الزمانِية؛ وهُنيهَات وُرودِه المكانِية- طَفِقت مُنهَمِكًا مُنشَغِلًا، أُرتّبُ وأُنمّقُ “كْرُوت” تلك الفلاشات الطائشَة؛ لأَنَال بنَظمِ “سَكّها” المُتواضِع، مُوافقةً ذَاتيةً، تُوقِظ قُوتَ استحسَانِ القارئ الكريم؛ وتَقدَح زِنادَ ذَائقتِه القِرائية؛ لمُتابعةِ نَمط السّرد النصّي، بحُريّةِ الاستمتاع، وسَلَاسَةِ نَهَم الابتهاج، المتوّجَين “بكُوكتِيل” نكهةِ مُسلسَلِ الفلاشات المُختارَة، المُقدّمَة على كَفّ طَبقٍ مِن سَرَقٍ…!

3. وَعَودًا حَمِيدًا إلى هَيأةِ الصورةِ النمطِية المُزدوجَة للعرَبة الفَارِغة، ونظِيرتِها المُمتلِئة. أستأذِن القارئ الكريم، في أنْ أُدْلِيَ وأَسْبِرَ مُتواضِعًا، مَا في جَعبةِ مُخيلتِي؛ لأتأمّل مَا تُخفِيه بَواطِن تِلك الصور التقليدية النمطِية للعربة… فالعربةُ الفارِغة تَحظَى عَادَةً، بطَلَّةِ رَشاقةٍ مَحسُوسةٍ؛ وخِفّةِ حَركةٍ مَلمُوسةٍ؛ تُرِيحُ عَضلات الدابة تِباعًا؛ ورُبّما تُسمع لَها جَلبةُ ارتطام عَجلاتِها، مَع تزامُن وَقعِ حَوافِر الدابة المُهرولَة برشَاقةٍ مَشهودَةٍ، ووُعُورَةِ الطريق غَير المُستَوية، وأمّا نظيرتُها: العربة المُمتلِئة، فإنّها تُثقِل كَاهِل الدابة؛ وتَراهَا تَمشِي الهُوينَى، مُنهَكةً بما تجُرُّه مِن أثقالٍ وعَتادٍ…! وهنالك تَجلّت أمَام مُخيلتي بوُضُوحٍ وسُطُوعٍ، فَحوَى الصورتَين المُتناقِضتَين لجَلبةِ وجَلجَلةِ انطِلاقة العربة؛ وفي الطرفِ المُقابل، يَتصدّر هُدوؤها وسُكونُها في رِحلاتِ القَوافلِ المنطلقةِ- شِتاءً وصَيفًا- مِن شِعابِ مَكّةَ إلى أسواقِ اليمن والشام، حَيثُ في ذِهابِها النشِط، تَخرجُ خَفيفةً فَي مِشيتِها المُتعَجّلة؛ لَطيفةً في تسارُعِ خُطاهَا الواسِعة، وقد عَقد سُوّاقُها عَهدًا رَابطًا، بَين الأَمَلِ والرجَاءِ، في طَلبِ إنجاحِ رِحلتِهم المَصيرِية، وأَنْ تُبارَك نِتاح مَساعِي تجارتِهم المَنشودَة بالتوفِيق المُؤزّر؛ وتُسدَّد بجَني مَكاسِبِ الخير المُنتظَر؛ وتُكافَأ بالربحِ العَمِيم… وفي بُطءِ أدراجِ عَودَة مَسِيرة القوافِل “القُرَشِيّة” المُثقَلة المُحمّلة بِمَا لَذّ وطَابَ، مِن تَنوّعِ البضَائعِ، وكَثرَةِ المُؤَنِ… وقد عَلَت شِغَافُ قُلوبِ مُرافقِيها عَلائِم الفرح؛ وغَمرتهُم أَمَارَات الابتهاج؛ وقَد آنَ لَهم بأَنْ يَعبُدوا ربِّ هَذا البيت- البَر الحَفِي- الذي لَا تَخفَى عليه أَدْنى خَافِيةٍ، في مُتّسعِ أطرَافِ السماوَات؛ وفي فسِيحِ مَناكِبِ الأَرض؛ وقد حَفِظَ لَهم ربّهم سَلامَة أعمارِهم؛ وصَان نماء أموالِهم، طَوال مِحطّات رِحلاتِهم الشاقّة الصعبَة، والذي أطْعمَهُم- سُبحانه وتَعالى- مِن جُوعٍ، وآمَنهُم مِن خَوفٍ!

4. ولَا أكادُ أنسَى تجسّدَ وَقع صُورتَي مَغزَى العَربتين المَجازِيتَين: الفارغةُ بفائق مَظهَرِ حُسنِها، وجَميلِ اختِيالِ رَشاقَتِها الأخّاذة؛ فهي في سِكّةِ “خَبَبِ” سَيرِها الرشِيق، كُواحدة مِن السحائب المُتفرّقة الرقِيقة، وقد سَاقها الله -الواحد الأحد- بعظيم رَحمتِه، مِنحةً مُجزِيةً، بقُدرتِه القادِرة؛ ووَهبَها طُعمَةً ضَافيةً، بجزيل فَضلِه الواسَع، بُشرىً للبِلادِ، وحَياةً للعِبادِ؛ بين يَدي رَحمتِة الخَير الوافِر؛ وفي هِبات سَابِغ عطفِه البركة المُتعاظِمة… ومِثلها: تَتصدّر سَحْنةُ أختُها العربة المُمتلِئة، فَهي في زِحَام انطلاقتِها المُتّئدة كَالسحاب المَركُوم، الذي جَعله الله مَصدَر سُقيَا؛ وصَيّره مَظهَر بَركَة؛ ليَعُمّ بنفعِهما المُغدِق سَائر البلاد؛ ويُسقي رِيًا عُموم العِباد… ومَا بَين رَسْمِ أَطيبِ وأَزكَى أنفاسِ طّيّاتِ التفاؤل الوِجدانِي؛ وتَقدِير أثمنِ جُودِ هَدايا السحائب الربّانية المُرسَلة، رَحمةً وعَطفًا؛ تَتجلّى في شَآبِيب مُزنِها المُنزَل عَظمَةُ الخالِق المُنعِم؛ وتَترَى أفضَالُه المُجزِيةُ؛ وتَتناثَر أسْباغُهُ المُهدَاةُ؛ وتُفيض نَعمَاؤه الوافِرةُ، ببالِغِ حِكمتِه، وتَتضاعَف عَطاءاتُه الضافيةُ ببارِعِ تَسيِيرِه، وسَمَاحَة تَدبيرِه، وقد أرادهُما الله، جَلّت قُدراته العُلا، وتَقدّسَت أسماؤه الحُسنى بأَن يَرَى أَثرَ وعَاقبةَ النعمةِ على عِبادِه؛ وقَد رَغّبهُم في شُكرِ النّعَم، مَا ظَهر مِنها، ومَا بَطن؛ وحَذّرهُم مِن شَفَا الانحرَاف، ومَيلَة الكُفر، بقوله تعالى: (وَإذْ تَأَذَّنَ ربُّكُمْ لئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).*

5. وَإنِّي أرَى بتأملٍ وتَروٍ تامَّين، امتِلاء جَوف مَقصُورَة العَربة المُتحرّكة الحُبلى أمرًا واقِعًا مَلمُوسًا، يَرسِم- بفخرٍ واعتزازٍ- تَرِكةَ مَشاهِدَ مَحفوظةٍ مُوثّقةٍ، وبَقايَا مَنابتَ أَطلالِ مُكتسَباتِ حّضارَةٍ سَائدةٍ رَاقيةٍ، وإنْ “سَادَ وبَادَ” وانطَمسَ واندَرسَ أثر بَراعِم شَطئِها العطِرة الرائحة، والمُزهِرة الجَنَاب رَدَحًا، في تَعاقُبِ وذُبُولِ حُقُوبِ التاريخ المُندثِر… إِلّا أَنّ مُستيقِظ ذِهنِ، وحَاضِر وِجدانِ الإنسان- النَبِيه المُعاصِر آنذاك، يَظَلاّ يَنبضَان بشرفِ الفخرِ؛ ويسَموان بعُلوّ العِزّةِ؛ ويَستشِرفان شُموخَ الكرامةِ… مَادامَ الدمُ العَبيطُ يَجرِي في دَورَة العُرُوق… وفِي إشراقةِ شُرْفَةٍ حَضاريةٍ بانُورامِيةٍ، لاَ أكادُ أَنسى تألّق وازدِهار تاريخِها العَبِق، إذ شَهِدتَ أصالةً، أَواخِر ضَوعِ وشُيُوعِ حَقبتِها العطِرة، في مَرحلةِ الطفولةِ المُبكّرةِ؛ ومَازِلت أُعَظّم وأُبَجّل أََريجَ كامِل أطيافِها المُتوشّحَة بمدّ نسِيجِ ظِلَال أردِيتِها الحضارِية المَشهودَة؛ قَلبًا وقَالبًا، والمُتجَسّدَة فَخارًا، في عُمق أرْدانِها الزاهِية المَحمودَة رَغدًا، في سِجلّ مَراقِي أحضَانِ بُحبُوحَةٍ مَشهُودةٍ مِن كَرامَةِ المَسعَى، ونُبلٍ مِن صِيْتِ المَحْتِد… وهُنالك أدْرَكتُ بجِرمِ قَامتِي اليافِعة، لاحِقًا صَوتًا مُدوّيًا قادِمًا مِن صَوّبِ شَواطِئ مَرفأ “البَصرة” العرِيق- مِن صُلب حضارةِ مَا بَين النهرَين- وقد صَاغته مُهجَة الشاعرِ أبي المُصَبِّح، عبد الرحمن بن عبدالله، الملقّب “بأعْشَى هَمَدَان” ليجُوبَ سَائحًا؛ ويَقطَعَ مُستَطلِعًا “دُرَر” قَوافِي شِعرِه الغضّ؛ لتُغازِل وتُداعِب رِمَال صَعدَات ضِفافِ الشواطئ العَسجَديّة؛ وتَمخُر بأَنغامِ نَاياتِها الشجِية الرخِيمة- بِمعِيّة أسرابِ الأَطيَار المُغَرّدة المُهاجِرة- عُبَاب البحرِ المُتلاطِم؛ لتُلامِس سُطُوحَ صَفاءِ المِياهِ الزرقاءِ الصافِيةِ… قاصَدةً صَوب جَانِب مَراقي ضِفاف مَرفأ دَارينَ الحَضَاري التِّرْب، بجزيرةِ تَارُوت، في حَاضِرة القَطِيف التلِيدَة، وقد صَدَح ونَضَح- شاعرُ تلك الحِقبة المجِيدة- بِما احتوته خَاصِرة حَضَارة “عِشتار” وفَضَح لُصُوصًا ثَعَالِبًا مُتربّصِين- في البيت الثاني- وقَد تسلّلُوا خِلسةً؛ لِينالُوا سَرِقة ونَهْب خَيرَات مَرفأ دَارين الحالِم؛ ثمّ يُولّوا الأََدبار، بمّا لذّ وطَاب، مِن أمتعةِ ومُكتَسباتِ المَرفأ المَنظُور، مِمّا وَقع تحتَ أيديهم، مِن تَوابِل وعُطُور وبَخُور… ولَم تأخذِ الشاعرَ المُفوّهُ شفقةٌ تعتريه، أو
، أو مُدَاهنةٌ تُثنِيه: ( يَمرّون بالدّهنا خِفَافًا عِيابَهمُ… ويَرجِعنَ مِن دَارينَ بُجْرَ الحَقَائبِ
على حِين أَلهَى الناسَ جُلَّ أُمُورِهِم… فَنَذْلًا- زُرَيقُ المَالَ- نَذْلَ الثعَالِب… على أنّ “بُجْرَ الحقائب” يُماثِل امتلاؤها بالمؤَن، تَوافُقًا، وانسِجَامًا مَع خَيراتِ مِلء العربةِ، المُشار إليها آنفًا، في نَصّ مَقولة- جُورج شُو- إِلّا أنّ المَعنى هُنا، يُرَى مُزدَوجًا بصُدغَيه، في غَمرَة مَنظُومَةِ صَفحةِ التأمّل الذاتية؛ ويَبدو الأمرُ واضِحًا فاضِحًا تِباعًا، على أَنّهُ تَورِيةٌ مَجازيةٌ، في حِين أَنَّ “بُجْرَ الحقائبِ” في عَجُز البيت الأول، هُو دَلَالَةٌ- مَكانيةٌ، وإِشارةٌ زَمانيةٌ- عَلى صَرْح حَضارةٍ مَشهُودَةِ المَولِد؛ وفَورَةِ حَراكٍ مألُوفةِ المَنشَأ؛ وعَبقرِيةِ تِجارةٍ مَغبُوطةِ المَحْتِد، صَاغَ آليتَها الذّائعة شاعرٌ مُبدِعٌ نِحرِيرٌ، مِن فُحُولِ شُعراء عَصرِه المُحدِثِين، حَاضَر البَدِيهَة؛ ومِن قُطَّانِ قَلبِ بُيوتاتِ حَاضِرةِ مَرفأٍ تاريخيٍ عَريقٍ… !


* الموسوعة الأساسية الحديثة- نقابة التعليم الأساسي: شيكاجو ط 1966 م 12 ص 186
* سورة إبراهيم آية 7
* ديوان أعشى همدان وأخباره ص 90



error: المحتوي محمي