ولو تصفّحت أوراقى لتقرأها.. رأيت تأمّلاتي جلّ أوراقي
1. لَعَلَ أَوّلَ صُورةٍ يَستَحضِرها الذّهن البَشرِي اليقظ عِند سَماع لَفظَةِ “يَد” هُو رَسم صُورة يد الإِنسان الحِسّية، بقُوّة قبضةِ كفّها الباطِش، ومُرونَة أصابِعها الخَمسَة، وانبسَاطة رَاحتِها الندِية… وعِند وَقفة التأمّل الفاحِص، ولَحظة النّبش الباحِث في جَوف سَلّة جُملة مَعانِيها المَجازِية؛ والتفكّر الضافِي المُوسّع في طَيفِ مَسارَات أيقُونات دَلَالَاتها الرمزِية؛ والتدبّر المُتروّي في تَدفّق زَخمِ مَعانِيها الجَمّة الزاخِرة؛ يَتمّ التِقاط حَشدٍ زاحِفٍ مِن طَلِيقِ الصور المُتنوّعة المُتعدّدَة تباعًا، مِن كُلّ حَدبٍ وصَوبِ؛ ليضُمّ وينظّم ناصِع مُحتَوى “ألبومِها” البهِي الشامِل: بكامِل المَرئيات الحسّية المَحفُوظة؛ ومِثلها التراكِيب المَجازِية المَصفُوفة؛ وصَنوها، الصور الرمزِية المُتراصّة… ولا تكادُ تخلُو لُغة ثقافةٍ مُعاصِرةٍ مِن سَلاسَةِ وطَلاقَة استخدام لفظةِ “اليد” بأوسَعِ طَيفِ مَدلُولَاتِها المُبتكَرَة؛ لتُعزّز وترسّخ دِقّة المعنَى اللّغوي المُعلَن آنفًا؛ وتَلطّف وتَرقّق ظاهِر أفيَاض مَشاعِر نَاطِقِيها الجَيّاشة؛ أو تزيدها خُشونة أوقَسوة؛ للوُصول المَنشُود المُسدّد، إلى دِقّة المعنَى المُراد، وبُلوغِ وُضوحِ المَقصَد المُحدّد… !
وَبَادِئَ ذِي بَدْءٍ، أستهِلّ بالاستخدام اللغوي للَفظة “يَد” اختِيارًا، في بَعضٍ مِن نُصُوصِ آي الذّكر الحكِيم الشرِيفة: فهناك استخدام لَفظة “اليد”، بمعناها الحسّي العُضوي المُجرّد، ففي آية الوضوء- الآية السادسة- مِن سُورة المائدَة؛ والمخصُوصَة بالتّبيان والأَمر الإلهيين، بإسباغ سُنّة الوُضوء ( يَا أيُّهَا الذِين آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلى الصَّلَاةِ فَاغْسَلُوا بِوُجُوهِكُم وأَيَدِيَكُم… ). وفي آية الكُرسي مِن سورة البقرة، الآية 255 (… يَعلَمُ مَابَينَ أَيْدِيهِم وَمَا خَلْفَهُم… ) استُخدِمت اليدّ هُنا مَجازًا، في مَيدان البيان والتبيان والمُصارَحة والمُكاشَفة؛ بتجلّي عظمة الخَالِق، العَالِم، الحَفِي، الخَبِير… وفي مَوضعٍ ثالثٍ، في سورة الفتح، في الآية العاشِرة، وهي واحِدة مِن الآيات المُتشابِهَات (… يَدُ اللهِ فَوقَ أَيْدِيهِم…) تِفسّر ظاهريًا، على أنّ الله يُقوي ويَحفظ ثُلّةَ المؤمِنين الأوائل المبايعين لرسوله… والمَألوفُ أنّ البشَرُ لهم أيدٍ عُضويةٍ مَرئيةٍ مَحسُوسَةٍ؛ “فيدُ اللهِ” عَزّ وجَلّ- باستخدام النص اللغوي- لاَ يُمكِن تصوّر حَقيقتها؛ وحَصر كُنهها، أو تجسِيد مَقاطعِها، بالإدراك الحسي العلنِي المُباشِر، عَلى الإطلاق، جُملَةً وتَفصِيلًا؛ لِتأخذَ مَعانٍ مَجازيةٍ عُليا، تَليق بمُنتهَى عَظمة ومُستقرّ جَلال الخَالق… ومَا فِيها مِن الرحمَة والشفقَة، وتَحجِيم، وتَقنِين وتِبيان لمَحدُودِيةِ سَعي، وضَعفِ مُحيط بَصيرَةِ الإنسان، أحد أسمى مَخلوقات الله العُظمَى…!
وَفِي مَتن سِلسِلة الأحادِيث النبوِية الشريفة… تتجلّى، بحِكمةٍ ورَشَادٍ نبويين، لفظة “اليد” ثانِيةً، شاخِصة مَاثلِة؛ لترفَع مِن شَأن فَضلِ وكَرمِ اليد المِعطاء الحَانِية بقولِه، عليه أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم: (اليدُ العُليا خيرٌ مِن اليدٍ السّفلَى)… واليدُ العليا هُنا، هِي التي تُعطِي الصدقة والمال لِمحتاجِيها؛ وتَمسَحُ بالشفقة ضَائقة الحاجَة؛ هذا، وفِي عُمق فَحوَاهَا الخَيري ومَردُودها الإِنساني تَتناثَر الذنوب؛ وتَربُِو الحَسَنات؛ ويَنال المُعطِي المَنظُور الأَجرَ المُجزِي، والثوابَ الوافِر الربانِيين. وفي نَسجِ حَديثٍ شريفٍ آخرٍ: (مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا، فّليُغَيره بُيَدِه، فّإِن لَم يّستطِع فَبقَلبِه؛ فَإِن لَم يِستطِع فّبِلِسَانِه؛ وذّلك أَضعفُ الإِيمَان)… ولَعلّ اليدَ، واللسانَ، والقلبَ، في بَاطِن الحدِيث الشريف، تكون لَها مَعانٍ مَجازيةِ، غَير الجَوارِح العُضوِية المُباشِرَة في ظَاهِر مَفهُوم مَنظُورِها اللغوي… تُناسِب ظُروف طَبيعتِها؛ وتَتمازَج مَع مَواقِف مُخرجَاتِها، مَع سَماحَة ولِياقَة إمكانيّات وقُدرَات الفَرد، ومَوقِع حَظوِ مَكانتِه الاجتماعية؛ والشاهِد في عَملية تغيِير المُنكَر القائم، بيان مَكانَة وتأثِير اليدِ الرحيمةِ- مَجازِيًا، ومَعنوِيًا، ومَسلكِيًا- فما أعْدلَ وأحْكمَ أقوَال وأفعَال سيّد الخلق أجمعِين، نبينا الكرِيم، عليه، وعلى آله الأخيَار، وصَحبه الأبرَار، أفضل الصلاةِ، وأَتم التسليمِ.
وهُناكَ مَدٌ لُغوي واسِعٌ؛ وزَخمٌ تَصوِيري وَافِر لاستخدام مَدلُول “اليد” المُطلق، بإضافة إِليها أسماء مُختارة، عَادة مَا تُناسِب طَيف ثَقافة عَامَة الناس؛ وتَألفُها طائفة ذائقة أَذواقِهم الاجتماعية والنفسية… لتُبيّن وتُعرِب عَن عُمق مَشاعِرِهم؛ وتُلبّي ذائقة أحاسِيسِهم المعنوِية والأدبِية تِباعًا… ومِن جَوف سَلّة ذَائع الاستخدامَات الشائعة “لليد”، أنثر شَذَراتٍ مِن بَعضِ المُتداوَلِ مِنها، في مَعْرِض مُعتَرَك الحياة اليومية، كالقول: (يدُ اللهِ مَع الجَماعَة) كِناية عَن عَقد رُوح الاتفاق، وتَحبِيب صِدق ألفة الوَحدة، وتوحِيد كلمة الرأي. وقولُهم تشدّدًا، على بيان ذِمّة اللّسان الرسمِي: (وسنضرب بيدٍ مٍن حَديدٍ، على كلّ مَن تسوّل لهُ نفسه…) وهي كِناية عَن التّهديد والوَعيد الشدِيدين، وعَدم الإقدَام، بأي حَالٍ مِن الأحوَال عَلى إِتيان أَو فِعل أمرٍ مَا، يَترتّب علية، مَا لَا يُحْمَد عُقباه…!
وأَمّا عَن استعمال لفظة “اليد” المَبسُوطَة المَنظُورَة في نَظْم الشعر العربي، ومِثلها في الشعر الغربي… إحدَى رِئتي الأدَب الرئيسة المُفوّهَة؛ فحَدِّث، ولَا حَرَج… فهَا هُو شَاعر المَهجَر القدِير ” إِليا أبي مَاضي” في قَصِيدته الرائعة يَترنّم مُختَالًا، في وَسط الطبيعة الغنّاء، يَستخدِم “اليد” مَجازًا مُختارًا؛ ورَمزُا نقيًا لحَركَة تَمايُل، ورَشاقَة تراقُص أغصان الأشجار؛ ويُصوّرها تَصويرًا بَديعًا إبداعِيًا، لطبيعة العَلائق البشرية، التي تَجمَع نمطَ المعاني الأََصْلِية الأصِيْلَة، ومَا يُماثِلها مَجازًا، في أجملِ صُورِها المُصَاغَة، برَقةٍ وفَصَاحةٍ جَاذبتَين: (مَا بَينَ أشجَارٍ كأنّ غُصُونَها… أيدِ تُصَفّقُ تَارَةً وتُسَلّمُ). وأمّا عَن أجملِ وَاحِدةٍ مِن استعمالات لفظة “اليد” ذاتِها في الشعر الغربي، وبالتحدِيد: في الشعر الأمريكي المُعاصِر، مَا سِمعتة وأطربنِي أصَالةً، وقت حُضُوري لأمسِيةٍ شِعريةٍ فَاخِرَةٍ للأمِيرةِ السمراءِ، التي كانت تُلقّب استحقاقًا، آنذاك، في مُنتصَفِ ثمانينيات القرن المِيلادِي المُنصرِم على مَسرَح الكُولُوسِيوم، بجامعة “نورث تكساس” وَقتَئذٍ، كانت الشاعِرة الأمريكية المُفوّهة “تَسرَحُ وتَمرَحُ” شادِيةً، برَائق وفَائق مَقاطِع شِعرِها العَذْب؛ لتُطْرِب أسماعَ الذائقة الشّعرِية الشّاعِرية، للنُّخب الأَدَبية الحاضِرة، آنذاك… وقد أَبْدعَت بإلقائها الناعِم، وأَجَادَت في التغنّي الرقِيق في إِحدَى قَصائدِها الرائعَة، أيّمَا إبداع؛ بتَصويرِ “بترول” العَرَب “باليد الرحِيمة” الحَانية، التي مَا فتِئَت تُقدّم دَعمَها المُتدفّق المُغذّي لعَصَب الصناعة الأمريكية المُعاصِرة، على وَجهِ الخُصِوص… !
ولِلّغةِ العربِيةِ صَولةٌ وجَولةٌ في تَتوِيج رَافِد الأَدَب العالمِي للإستعارات الرمزِية البَديعِية لصُوَر “اليد” البشَرية الندِية، ومِثلها إهداء قَريحَةٍ فَنيةٍ بَيانِيةٍ، تُناطِح في حُسن بَلاغَتِها، وكمال نَسجِها البيانِي في “أعلى عِلّيِين” في أحوال: الرّحمة، والأُلفة، والمَحبة، والعَطف، والسّخاء والكَرم، والضّيافة …. وبِهذَا النّفَس المُتدفّق الساخِن، مِن بَاقَات طَيفِ التنوُّع اللغوي الشائقة؛ ومَدِّ الإبداعِ الفكريِ السامِقِ؛ وتَصدِيرِ رَوائعِ الثراء البديعِيِ الشاهِقِ، تمتلِكُ اللغة العربية رَصِيدًا وافِرًا مُتجَدّدًا، مِن بارِزِ ذائقةِ الحُسن، ولطيفِ شَمائل الجَمال، ورهِيفِ لَطافَةِ الحِّس، وتنوّعِ جَزَالَةِ المَعنَى… وَقد صَدَق وأَجَادَ أميرُ الشعر العربِي، أحمدُ شَوقي- رحمهُ اللهُ- حِينما قَال: ( إِنَّ الذِي مَلأ اللّغاتِ مَحَاسِنًا… جَعَل الجَمالَ وَسِرّه فِي الضّادِ).