تظهرُ صفاتٌ أخلاقيَّة في جميع الأممِ والشعوب؛ يُفرزها الواقع، وتشكِّلها الظروف، تتمسك بها بعضُ شخصياتهِ، إلى أن تُصبح علامة دالةً عليها، ولا يعني وجودُها في مجتمع ما أنْ بقية المجتمعات خاليةٌ منها، بل يعني أنها بلغت الغايةَ والنهاية في ذلك المجتمع، وفي تلك الشَّخصية، وبذلك تتحوَّل الصِّفة الأخلاقيَّة إلى نموذج، والشَّخصية المتمسِّكة بها إلى مثالٍ، وحين لا تجدُ الشعوب نماذجها، تسعى لاقتراضها؛ لأنها لا تتمكَّن من الاستمرارِ في الوجود، دون نماذج عُليا، وأمثلة مهيمِنة.
النماذجُ كثيرة في الحياة؛ إذ هي صفات أخلاقيَّة عامة، ومتداولة، كما هو حال نموذج البُخل، ومثال البخيل، إذ وردت من العصرِ اليوناني مع مسرحية “البخيل” لسوفوكليس، فلمَّا جاء الإسلام برزت عند العرب نماذج للبخل؛ أشهرُها ما ورد في كتاب “البخلاء” للجاحِظ، وما روي عن “أشعب” الفَكِه؛ من حبٍّ للمال، وعدم الإنفاق، أمَّا في العصر الحديث، فنجدُ موليير الفرنسي ألَّف مسرحيته “البخيل”، على غرار مسرحية سوفوكليس اليوناني.
الأممُ والشعوب تخترعُ نماذجَها عند الحاجة، وما نموذجُ البخيل إلا إطارٌ عام، يشمل جميعَ البخلاء في تلك الشعوب، كَما يشمل البخلاءَ على وجه الأرض؛ لأن النموذجَ لا يكون خاصًّا بشعب دونَ آخر، بل عامٌّ، ومفتوح؛ للأخذِ منه، أمَّا الشخصياتُ التي تنتمي إليه، وتتشابهُ معه، فهي التي تتميَّز بالخصوصية؛ حيث صفةُ “البخيل” إطارٌ عام، وشخصية “أشعب” مثالٌ خاص بالبخل في الثقافة العربية؛ نجح بالتفوق على الشخصياتِ التي نافسته، وجاء بأفعالٍ وأقوالٍ مغرقة في البخل، مما كرَّسه كنموذجٍ لهذه الصفة.
بعد ظهور النَّموذج وانتشاره، يحدثُ أن يأتي أشخاصٌ؛ يحاولون التشبُّه به، إذ لكلِّ نموذج أتباعٌ ومريدون، ربما نجح أحدُهم، فاستطاع الحلولَ محلَّه، حينها تبدأُ الألسنةُ بتداول اسمه كمثالٍ حيٍّ؛ مقترنٍ بالصفة، ومتلازمٍ معها، وهو أمرٌ يُمهِّد لاستبدال النموذج القديمِ بآخرَ جديدٍ.
لكلِّ صفة نماذجُ خاصة بها، فكما للبخلِ نماذج، كذلك للشجاعة، والكرم، والخطابة، والفُروسية، والبطولة، والنِّفاق، والغدر، والخيَانة، والوفاء، وغيرها، حيث هي صفاتٌ يمتلكها الإنسان، ومنها جاءت التسمية بالنماذجِ الإنسانية، فالصفة الواحدة لها أكثرُ من نموذج، ولكل نموذج درجةٌ معينة، إلا أنَّ أحدَها أعلى من البقية، وأقرب إلى الكمال، وهو مَن تتمُّ الإشارة إليه باعتباره النموذجَ الأعلى المهيمِن.
النموذجُ الأعلى المهيمن؛ هو مَن يتحول إلى رمزٍ من الرموز، فعنترة بن شدَّاد؛ يمثِّل نموذجاً للشجاعة، وكذلك رمزاً من رموز الذاكرة الثقافيَّة العربية، وحاتم الطائي يمثِّل نموذجاً للكرم والعطاء، وكذلك رمزاً من رموز الذاكرة الثقافيَّة العربية، والأمر يمتدُّ ليشمل الكثير من الشخصيات، التي يتم تقديمها للمتلقين، باعتبارها المثالَ والقدوة.
الشخصياتُ الرمزية أو النماذجُ العليا، لا تظل حبيسة ذاكرةِ شعوبها، بل تخرج من سجنها الثقافي، وإطارها الذي يحيطُ بها، إلى فضاء الإنسانيةِ الأوسع، فتستلهمها الأممُ والشعوب؛ مثلما يُشاهَد من مغادرةِ شخصيات حقيقية ٍكـ”غاندي وتشي جيفارا” للهند وبوليفيا، وانتشار أفكارهما على مُستوى العالم، وكذلك من مجاوزةِ شخصيات خياليَّة لحدود الثقافة التي نشأت داخلها؛ كَما هي حالة “السندباد وطرزان”.
تتساوى الشخصياتُ الحقيقية والشخصيات الخياليَّة على مستوى الرمزية، فكما يجوزُ للأشخاص الحقيقيين أن يتحولوا إلى رموز، يجوز ذلك بنفس القدر للشخصيات الخياليَّة والمخترَعة، إذ تنتشر بين أبناءِ لغتها، ثم تنطلق بعدها إلى أبناء اللغات الأخرى، الذين يجدون فيها تعويضاً عن نقصٍ داخل ثقافتهم، فمثلاً: عدم وجود نموذج للبطولة؛ يضطر الثقافةَ إلى استعارةِ نموذج البطل من ثقافة أخرى، حتى وإن كانت معادية، وهو ما ينتمي إلى باب “الاقتراض الثقافي”؛ الذي لا يقيم وزناً للتحالفات والعداوات، حيث تركيزه منصبٌّ على الجوانب الثقافية فقط.
النماذجُ الإنسانية تُعتبر الطريق الطبيعي لتحوُّل الشخصيات إلى رموز، ،عبر تكرار الفعل، مرة بعدَ مرة، وبشكلٍ يومي، أو شِبه يومي، إلى أن يُصبح عادةً من العادات، إذ تمارسه بتلقائيَّة، ودون تكلُّف، أو وقوعٍ تحت ضغط وإجبارٍ، فإذا لم يكن الفعلُ عفويًّا؛ ستفشلُ في التحوُّل إلى نموذج، وسيلفظُها الناس؛ لعدم صدقها.
كلّما ازدادَ انتشار الرموز الثقافية، كان ذلك إيذاناً بإعلان الثقافةِ التي تنتمي إليها؛ ثقافةً مُهيمنة على مستوى العلاقات بين الشعوبِ والأمم؛ التي تأخذ بالنظر إلى ثقافات بعضها البعض، فتقترضُ ما ينقصها من كَلمات وصياغات ونماذجَ إنسانية، حيث الشعوب الأقوى، والمسيطِرة؛ تفرضُ ثقافتها على الشعوب الأضعف، والمسيطَر عليها.