ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأيت تأَمّلاتي جُلّ أَوراقي
1. قَد يَستحِوذ جُلّ نمطِ نشاط عَملِنا الرسمِي اليومِي، على ثُلت ساعات نهارنا؛ ويَستنفِذ تِباعًا، في آخر سَاعَاته المُحدّدة المُتصرّمة، قبل انطلاق صَلصَلة مُنحنى جَرس نِهاية الدوام، قِمّة طاقة نشاطِنا النهارِي المُهدَاة، طَوعًا واختِيارًا؛ لِنطوِي، بعَزِيمةٍ وشَكَيمةٍ ذاتيتين دائبتين، صَفحَةَ المَعاش المأجُورة، مِن مَخزون ومَكنون رَصِيد حَياتنا المَحسوبَة، بدقّة مِقياس (الدقائق والثواني) “الديجيتل” شِئنا، أم أَبينا… ! وإذا كان التزامَنا الذاتي بإتقَان وإجادَة دِقّة العمل الوظِيفي المؤدّى، مَضْرِب دَيدَنٍ سُلوكيٍ نشطٍ؛ فلنتّخِذ هذا المَنحى، القائد الرائد، نِبراسًا قَائمًا، مَا حَيِينا… يُضِيء لنا أندَى سّاعاتِ الكِفاحِ المُشرقَةِ الحُلوةِ، مِن أجلِ تحصِيلِنا طعمَ مَؤونَةِ لُقمةِ العيشِ الكريم؛ وتنوِيلِنا رَائحة وَرِقِ الكَسب الحلال، فِي فَيء بُسطِ الكَرامة والوَقَار؛ وفِي إمداداتِ ظِلال الشهامَة والاعتبار، في أحضان الوَطن المِعطاء… ولا أدَلّ وأصدَقَ مِن قولِ سيد الخلق أجمعين، عليه وآله الطيبين الطاهِرين، وأصحابه المُنتجبِين أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم: (إِنَّ مِنَ الدِّنُوبِ دُنُوبًا لا يَكَفِّرها إِلَّا السَّعْيُ في طَلَبِ المعِشَةِ).*
2. ويُلَاحَظ أنّ مَعايِير سِرّ الحياة، مُرتبطة بدَيمُومة العمل الدائب، واستِمرَارِية دَورة الحركةِ الذاتيةِ، أو تلقّيها رِدءًا مُعينًا، مِن مَصدرِ إمدادٍ حَيويٍ، يَهِب عُمرًا مُحدّدًا مُقاسًا؛ لاستِحثَاثِ وحَفزِ دَيمومَة حَركَة، وعَمل جِسمٍ مَا، كَمُستَوى الطاقة المُولَّدَة صِناعِيًا مِن تزويد وإمداد للطاقة المُشَغِّلَة لأعتَى مُحرّكاتِ “التوربينات” الضخمة، بأنواعها: المائية، أو البخارية، أو الغازية؛ لإِمدَاد، وإِسناد، وتزويد المصانِع الكُبرى، بالطاقة اللّازمة للإنتاج، وعَمَل دِينامِية خُطوط التصنِيع…! والملاحَظ المُدهِش، أنّ مَوكِب قَافِلة المُخترعِين، وأَفْرِقَة المُبتكرين، لَم تَتوقّف يَومًا، عَن حَركةِ التطوير، ومَنهجِيةِ التجدِيد، المُتزَامِنتَين مَع قائم آخِر مُستجدّات “العَرض والطلَب” المُتنامِية طَردِيًا، مع طَفراتِ التزايد السكّاني العالَمي، وصَنوها، حَركة التعمِير المُتسارِعة، في أرجاء المعمُوره!
3. ولَعَلّ حَركةَ نبض التقدّم، وطَفرةَ زحفِ التطوّر، المَاثِلتين الشاخِصتين، بقُوّة العَزائم الصَّلبة، وإرادة الشكائم الجَبّارة، التي لَايخبُو شأوها؛ ولَا تكِلّ هِمّتها؛ ولَا يَنطفِئ إمداد لَهبِها المتأجّج… فهَا هِي خُطُوط التجمِيع الطويلة، ومَرافِئ الإنتاج المُعاصِرة، تتقاطَر وتتفاخَر، عِيانًا جِهارًا، في بُطُون المَصانع الضخمة بإمداداتٍ حيةٍ نشطةٍ، تدعّمها مُسانِداتٍ حَاسوبيةٍ رَقَميةٍ عَصريةٍ، غَير مَسبِوقةٍ، لتختصِر الجُهد والوَقت مَعًا، في رَفع مُستوى الإنتاجية؛ ومِن دَرفَة الباب الواسع، تُدْخُل سَواعِد العمّال في رَاحةٍ مُنعّمَة؛ وتُقدّم لَهم “مَعسُول” الراحة والإراحةَ؛ وتبدِي لهم “تَرَف” البَطالة المقنّعة؛ وتُريهِم شُحّ وشَبَح الوظائف المُنحسِرة؛ وتحرِمهم لِحاقًا، نُدرَة التكَسّب المادّي؛ وتنمنعَهم لُقمة العَيش الكَريم…!
4. وتَتَصَدّر المَقُولة الصائبة: (الحياةُ كلّها عَملٌ)… مَادَام الدمُ العَبِيطُ يَضُخّ في عُمق الشرايين. هذا، ولَا يَنتهِي مَفهُوم العمل عِند دَورةِ تكسّب الرزق الحلال، ومُلاحَقةِ مَباهِج الحياة الدنيا فَحَسب، بل يَمتدّ أثرها الباقي إلى الالتفات الواعِي إلى تأسِيس وتشيِيد رُوح العمل العِبادِية، بالتقرّب الصادِق إلى كَنفِ اللهِ تعالى… باتّباع أوامِره، واجتباب نواهِيه؛ مِن أجلِ النيلِ والظفرِ المأمُولَين بنصيب الآخرة، ومَا أَعدّ الله للعبد الصالح المؤمنِ فيها، مِن وَافرِ نبعِ العطَايا المُجزِية، ويُسْرِ رَوافدِ السجَايا الصادِقة؛ وحّسَناتِ النعِيم المُقِيم، في فِردوسِ جَنّاتٍ، عَرضُها السماوات والأَرض.
5. وكَثِيرًا مَا يُواجِه الإنسان المَصاعِب؛ ويَتجشّم المَشاق، ويَتحمّل مَرارَة الهِجرة، والانتقال القَسرِي، مِن مَسقط رأسِه، إلى بلدٍ نَاءٍ، وثَقافَةٍ مُختلفةٍ مَع ثقافتِه الأُم؛ وقَد لايُجيد التحدّث بلُغة أهلِها؛ وقد، وَجَد نفسة وَقتئذٍ، تائهًا في أحضَان قارةٍ أخرى… كل ذلك مِن أجل كَسْبِ لُقمة العيش الحلال، والحِفاظ على كَرامَة وكَفاف المَعاش النزُيه، ومَا في حِيازَة “سَماحَة” الحياةِ المُعاشَةِ مٍن جِهادٍ وكِفاحٍ مُناضِلَين؛ يَرقَيان اطمئنانًا، إلى مَراقِي عِزّة النفس؛ ويَصعَدان سَكِينةً، إلى مَدارِج نُبل كَرامَتِها…!
6. ولَسْتُ أبالِغ في سَردِ حَدثٍ وَثائقيٍ، مِن عُمق “تراجِيديا” كَرامَة وشَهامَة النفس البشرية؛ وكِفاحِها الشرِيف النبِيل، في السعي الدؤوب، في تأمَين وتوفِير لقمة العيش الكريمة، للفرد وأفراد عَائلتة، في زمن شَظَفِ العيش، وشُحّ المَوارِد الأساس… حَدَتث تلك “الضائقة” الخانقة عِندنا في الساحِل الشرقي للملكة العربية السعودية، وبالتحديد، في مَنطقةِ القطيف… في السنوات مَا قبل مُنتصف القرن المِيلادي المُنصرم، حيث دَأَبت ثلةٌ مِن السكان، آنذاك إلى رُكوب البحر قَسرًا وكُرهًا، بالاصطفاف في طول طَوابير مُنتظمّة، في مَجلس النوخَذَة؛ لتسجيل أسمائها طَوعًا، للانضمام إلى مِهنة” الغَوص الشاقّة المُهلِكة ” لاصطِياد اللؤلؤ مِن قِيعَان البحر… حيث تَبدأ حَبكة اللّقطة المأسَاوية، مِن لحظة رَمي “الغواص” بجسمه مِن أعلى المَركَب، في عُرض البحر، مُمسِكًا بحبلٍ مَتينٍ، مَربوط في وَسطِه، وطَرفه الآخر عند “السِّيْب” الفرد الواقَف المُنتظِر على ظَهر المَركَب… ليَغُوصَ الأول إلى الأعماق، رُبّمَا لِثوانٍ مُحدّدةٍ، كَاتمًا أنفاسَه “بالخُطام” وحَول رَقبتِه سَلّة، يَضعُ فيها مَا تَناله يّده- الحانية المُمتدّدة- مِن “أصداف” مُقفلَة؛ للبحث عَن اللآلِىء لاحقْا… وسُرعَان مَا يَحس الغوّاص بنفاذِ “الأوكسجين” بشِدّه، يشدّ الحبل بقوةٍ؛ ليسحَبه السِّيْب مِن أعلى المَركَب، بأقصَى سُرعةٍ مُمكِنةٍ؛ لإنقاذ رَمَق حَياة الغواص، مِن نَازِلة الموت المُحقّق… وهَكَذا يَبدأ فصلٌ مِن مْسَلسَل المأْسَاة الحتميّة، مِن لَحظة اصطِفَاف ثُلة الغواصين في مجلس النوخذة؛ إلى مَثيلتِها: خُرُوج أُسُرِهم؛ ليواسُوا ويودّعُوا جُموع الرجال المتطوّعين والمتّجهين صَوب البحر… عِندئذٍ تلتقِي وتتمازَج “أمصال” الدمْعَتان الساخِنتات: دَمعةُ النساء والأطفال المُؤلِمة، ودَمعةُ البحر اللؤلئِية السخِية، القابِعة في جَوف الصَدَفة… لتُسجّل وتُوثّق حَرارَة الدمعتان الثمينتان، بفخرٍ واعتزازٍ، أْسلُوب حَياةٍ، وتاريخ حَضارَةٍ!
7. وفِي ذُروَةِ هُنَيهَةِ وَقفةٍ تأمّليةٍ
مُتدبّرةٍ، في فَائق نِظام مَنهج عَظَمة؛ وصَنعة إٍجلَال لُجّة خِضمّ مَلكُوت الكون، في فائق نِظام تعاظُمِه، وتَجِلّة خِضم لُجّتِه، تعجّ وَاسع آفاق ومَسارَات السّدُم الغازية الفضائية العُليا، ومَا جّاورَها مِن أفلاكٍ ومَدارَات، بكَمٍ ضخمٍ هَائلٍ مِن المَجرّات العِملاقَة، والنجُوم الطارِقة، ورُكَام، لَا مُتناهٍ مِن الكواكبِ السيّارَة… وجَميعها تَتحرّك وتَسبَح، مُسَخّرَة في عِناية مَسارَات ربانيةٍ دائبةٍ، ورِعايةٍ مُدبرّةٍ، بإذن رَبّها؛ لَا يَعلَمُ أسرار عَملِها، ولَا يُدرِك حَقيقة كُنهِها، سِوى خَالِق الكَون، ومُدبّر الأَمر، ومُكوّر الليل على النهار… فَما أَعظَمَه وأجَلَّه مِن قائل: (وَهُوَ الذِي خَلَقَ الليْلَ وَالنَّهَارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)… وقد آنَ الأوان للإنسان أَنْ يتأمّل، ويَتدبّر، ويتفكّر في عَظمةِ الكَون، ونَامُوسِ جَبرُوتِ خالِقه؛ وحَانَ لَه مُجدّدًا أنْ لَا يَقعُد “مَلُومًا مَدْحُورًا” مُتقوقِعًا في دِفء صَومَعة الترفَ والدعةِ… بَل يَسعَى-جَاهَدًا ومُجاهِدًا- في مَناكِب أرض الله الواسعة؛ ويُعمّر أطرافَها بالطاعة، والعِبادَة، والأعمَال الصالِحة؛ وبالله التوفيق!
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال المأثورة ص ٤٥٥
* سورة الأَنبياء، آية ٣٣