أمي من فريق الأطرش (30)

بين ردح الصبا ورفيف العين أبصرت شابًا يافعًا دائم الابتسام طلق المحيا، بشوش بترحاب، يرتسم على وجهه حفر منقوش، ذلك الشكل دارت حوله حكايا النقل بزيادة ونقصان.

مؤخرًا سألت المعني الذي لم أتجرأ طوال عقود أن أسأله شخصيًا ذلك السؤال، فضول أخذني أثناء تدوين هذه السطور فسألت الأخ أحمد تراب (أبو عبد الله) عن العلامة الدائرية في خده الأيسر؟
أفصح لي وروح الدعابة تتلون بأطياف الذكرى والأنين، حكى لي عن مشهد صادم تعرض له بعمر الخمس سنوات.

كان والده مع أعمامه يسكنان منطقة الخارجية في بيت من “سعف وجدوع الأشجار” بجوار مسجد (سرب) المعروف بـ(الشيخ يوسف) الذي يقع فوق تلة تطل مباشرة على بستان “بيوده” ويشار إليه أحيانًا بمسى النخل، بعد فترة من الزمن انتقل أفراد العائلة إلى فريق الأطرش مع بدايات نشوء المكان، وضمهم ثانية بيت من جريد النخل، حين أصبحوا مقتدرين ماديًا، شرعوا في بنائه بالحجارة والطين، وعند وضع “الأساس” قاعدة البيت قدم إليهم الحاج (أحمد بن عباس) حاملًا على متن “گاريه” كمية من “حصى البحر” ذي اللون الأبيض المكتسي بخضرة خفيفة، وبينما “التباع” الشاب “حسن الرويعي” يلقي بالحصى أرضًا وقت الضحى، أبصر الطفل أحمد تراب الموقف بنظرات بريئة موزعة على وجوه وحركة الرجال، قسوة الحجارة الثقيلة ونتوءاتها الحادة والقواقع البارزة منها، تجرح الأكف العارية فتستنزف الأعصاب، أخذ التعب منهم مأخذه، عرق يتصبب من الأجساد، خاطبوا الطفل أحمد ليحضر لهم الماء حالًا، فأعطته والدته “شربة ” آنية فخارية مليئة بالماء تنقل بها من يد إلى يد، وحين اقترب من “التباع حسن” المشغول بالتنزيل وهو واقف فوق “مستراح الگاري” القريب من مؤخرة الحمار وبحركة عفوية دار للطفل راكعًا ليأخذ منه “الشربة” فركل ما تحت الذيل، لامس إبهام رجله فتحة الشرج، استفز الحيوان والتف سريعًا بعدما انزاحت عن ظهره أغلب الحمولة فاتحًا فكه وقبض على خد الطفل أحمد، “بنهشة حمق” فغاب في الصريخ، قضم قطعة من الجلد دون اللحية ولا الأسنان، ثم رفعه عاليًا “لوحه” ورماه أرضًا لا يلوي على شيء.

أسعفه “التباعون” المساعدون لصاحب “الگاري” ووضعوا على خده “قطن وسكر” لوقف الدم، من شدة الهلع والألم غطى الطفل في نوم عميق.
حين أتى الحاج عبد الله تراب قادمًا من القطيف أخبروه بما جرى لولده الأكبر وأشار عليه جد الطفل -والد أمه الحاج علي بن علي عيسى دعبل- بتقديم شكوى، رد عليه أبو أحمد “لا ما نشتكي، نشتكي على من، على حمار، ما يصير”!
قال الجد “نشتكي على التباع هو اللي دعم لحمار وهيجه ومالتفت للولد”، بكل هدوء ورجاحة عقل قال أبو أحمد تراب: “الرجال ما له ذنب”، لقد رفض التقدم بأي شكوى ولا حتى كلمة عتاب.

حمل الطفل أحمد على متن “گاري” والده يقودهم حمار، خاضوا عباب البحر، قطعوا المساحة واتجهوا لعيادة خاصة في القطيف، تلقى الطفل علاجًا عند الدكتور المعروف “الذيباني”، وكتب لهم ورقة لمستشفى رحيمة لعمل خياطة للجرح، تخوف الأب من غرز خد ولده بإبرة وخيط، ظنًا منه أنه سوف يشوه أكثر، جرح طري تمت مداواته بشكل مبسط، انتفاخ وتورم ومراوحة للألم، بعد يومين حل ضيف من البادية “شيبه” زائرًا صديقه الحاج عبد الله تراب وهاله منظر “تگويرة” خد الطفل، متسائلًا عن السبب، قيل له “من عضة حمار” قال لهم: “أعطيكم علاج تتبعوه” قال له أبو أحمد: “حاضرين باللي تٱمر به” تحقق الضيف باستفسار “هل الحمار اللي عض الولد موجود في البلد”، قالوا له: “نعم حي يرزق وصاحب الحمار يسكن الربيعية”، فأشار عليهم بالآتي: “خذوا شعر من ذيل نفس الحمار وجيبوا عظم من حمار ميت وحرقوهم سوا حتى يصير درو”، رماد من بقايا حمار ميت وآخر حي وضع على الحلقة الدائرية يومًا بعد يوم، طاب الجرح والتأم بعد أسبوع كامل.

ظلت علامة العض على خد الحاج أحمد تراب التي تعرض لها قبل 65 عامًا أثرًا واضحًا إلى اليوم كأنها وسم من كي، تحكي عن مشهد مروع حدث في يوم قائظ، لتؤرخ بداية تأسيس بناء بيت آل تراب.

بالرغم من مرارة الواقعة واستحضارها من عالم النسيان، حين تسمعها من أحد أفراد العائلة سواء نساء أو رجال حتمًا ستبتسم، فكل يستعرضها بطريقته المشوقة، وقد كتبت المشهد في البدء على لسان علي تراب الأخ الأصغر لأحمد وقال لي بأن عمر أخيه كان سبعًا وكان هو خمسًا، وسبب توتر الحمار مغاير لما دون أعلاه، الموقف يدعو للضحك والبكاء في آن، لكني أخذت بشهادة صاحب الشأن.
عائلة آل تراب لديها حس فكاهي متوارث ليس في وقت الراحة، فحسب بل حتى في أحلك الظروف، ومثل ما يقال: تنسى همك إذا جالست أحدًا منهم، وصفة الظرافة يتمتع بها إجمالًا أغلب مجتمع فريق الأطرش، وهذا حديث مؤجل.

أية دهشة وتقطيب جبين ارتسم على محيا خالتي وهي تزفر الذكريات الموجعة عن مخاطر الحمير السائبة أو الهاربة.
ففي يوم ربيعي وعند العصر ذهبت خالتي زليخة مع أطفالها للاستحمام في “عين الأمير” التي تحفها
النخيل من جميع الجهات والقريبة جدًا من منازل فريق الأطرش، دعك للأبدان بـ”الشملة” وغسل الرأس بالطين الخويلدي، بهجة الصغار تتدفق مرحًا ولعبًا كلما انساب تدفق الماء من الأنبوب الكبير على رؤوسهم، تأمر خالتي فلذات أكبادها بالكف عن اللعب والقيام حالًا من العين بتنشيف أجسادهم فقد جاء وقت “اسلوم الشمس”، وأوصت ابنتها الكبرى فاطمة بالتقدم نحو البيت مع أخواتها، وبينما خالتي توشك على غسل آخر قطعة من الملابس أتتها مسرعة الحاجة “بحارية” لتخاطبها في سبيل اللحاق بأطفالها لأن حمارًا هاربًا “منحاش” يدور بين الزرع وبيوت العشيش، وعلى عجل تركت الماء وهي تسمع الصريخ يتعالى مع غروب الشمس والأولاد يتراكضون كل في يده عصاه، وإذا بالطفل محمد حسن المضوي ذي العشر سنوات قادمًا من عين “خشكار” بعد أن فرك رجليه تنظيفًا فرحًا بلبس حذاء جديد وهم يقولون له “ارجع ارجع” لم يرتعد من أي شيء، فليس أمامه شيء يستدعي الخوف، سوى صوت صريخ الأولاد، وفجأة وعند المنعطف برز له الحمار المنفلت، لم يتدارك نفسه بالاستدارة للخلف ومن شدة الارتباك سقط على وجهه فوق أعواد “الگت” واستقبلته عظة حامية في لمح البصر، شبح أسود أطبق عليه وسط حلول الظلام، لحظئذ قدم رجال كانوا يتأهبون للوضوء في “عين خشار”، وحين وصلوا وإذا بالحمار المنفلت يركل الطفل ركلًا ليصطدم جسمه بتضاريس الأرض مثل كرة تأبى دخول المرمى، حاول أن ينفلت منه مرارًا بتقلبات على أرضية الزرع، بينما النساء عند الأبواب يتصارخن على وقع أذان المغرب، السواعد توزعت بضرب عنيف دون فائدة، وحين هوى سيخ من حديد على رأس الحمار ترك الطفل وفر كأنه مسطول يرتطم بحواف زوايا البيوت وجذوع النخل، التفتت المجاميع نحو الطفل حسن ساعدوه للوقوف على رجليه، في البدء لم يقوى وبعد محاولات مضنية خطى خطواته المتثاقلة، أصيب بخدوش على طول الفخذ الأيمن، نقل الطفل لشرطة تاروت بدلًا من المستشفى لتقديم شكوى مبيتة ضد صاحب الحمار بعد أن تكررت حالات فرار حماره من زريبته الواقعة بين منطقة الدشة والجفرة والتجائه فورًا لمعامير فريق الأطرش!!، أدخلوا الطفل للقسم محمولًا بين يدي والده ورجلين من أصحابه، لكن لم يسجل أي بلاغ ضد (س، ع) لأن العسكري لم ير دمًا وتأكد من مشية الطفل بأنها سليمة، فدعاهم للعفو ونسيان الأمر، خرج الجميع شبه متسامحين بعد تيقنهم بأن ابنهم معافى، خرجوا من قسم الشرطة تلقفتهم أصوات الأفراح في فضاء السوق، إنها تباشير رؤية هلال شهر رمضان المبارك لعام 1398 هجرية الموافق 1978 ميلادية.

حورات دارت عند أهالي فريق الأطرش وتحذيرات استدارت حول توقد غرائز الحمير المنفلتة، وخشية من حالات التوحش ولحظات انفلات أعنة أمزجتهم الفحولية، بأخذ الحيطة من أي حركة مباغتة قد لا تحمد عقباها، بعض الأهالي يلعنون الكائن الأليف لكنهم لا يستطيعون الفكاك منه، هي الحمير عماد الزرع والتنقل، تمامًا كحاجتنا للسيارات بالرغم من المآسي التي خلفتها على الأسفلت لا أحد يستغني عن هذا المركوب العصري.

وبين التأوهات تزفر خالتي الموقف تلو الموقف: “ويش اعلمك عن مصايب واهوال الحمير ياولد أختي، كشكول، نايبة ادمرهم”، تقطب جبينها بشدة حول سردها لمشهد مرعب كان حديث الناس وقتها.

تحت هدأة الليل وصوت الجندب أتى الحاج (م، ر) إلى زريبته ليطعم حماره، تلك وجبة عشاء معتادة من البرسيم “الگت” وسطل ماء، ينظر رفيق الدرب بنظرة شزر، وبدلًا من التهام الأعواد الخضراء، قبض الفك المفترس على يد سيده بكل ما أوتي من قوة وعنف وقسوة ورماه أرضًا، سقط الرجل مغشيًا عليه، ظل لمدة من الزمن إلى حين زادت هواجس زوجته لتأخره في تنفيع الحيوان، ما إن وصلت للزريبة صرخت صرخة مفزوعة “أبو عيالي مات”، فر الأولاد والجيران، نقلوه للمستشفى غائبًا عن الوعي وقلبه يدق بارتجاف يشتكي من غدر صاحب دامت العشرة معه عدة سنين، الدكتور لم يتمالك نفسه، برقت عيناه حزنًا وحسرة لما آلت إليه اليد، كل الأوردة والشرايين تهتكت ونسيج اللحم تآكل، بان العظم المشروخ كسرًا، مداواة أفلحت فقط في وقف النزف، وعلاجات دون فائدة لم يصل الترميم لمبتغاه، أصبحت اليد مشلولة تمامًا لأن الموصلات
كلها تقطعت.

تم بيع الحمار بثمن بخس، واشتراه رجل وهو يعلم عن الفعلة المأساوية، قائلًا أعرف كيف أتعامل مع البهيمة!
سار الحال عدة شهور والأمور على خير ما يرام، إلى حين حملت “گلات تمر” على متن الگاري
سحبها الحمار الملعون الذي ظن أنه أصبح مسالمًا عند صاحبه الجديد انطلق من وسط نخيل فريق الأطرش وعند نقطة حدود مركز “گمرگ تاروت البحري”، ثارت ثورة الحمار المجنون، فقلب ظهر المجن راميًا كل الحمولة التي يجرها متخلصًا من البردعة وأوتار الحبل سقط الرجل على الأسفلت ثم جثم الحمار على صدر سيده بعد رفس وركل، أنقذه رجال خفر السواحل وفر الحمار نحو البحر، مطاردة استمرت إلى حدود بساتين العوامية، وسلمت امرأة من جنونه الطائش، كاد أن يؤديها لو لم تلق بنفسها في مجرى الماء، قبض على الحمار بعد كر وفر وسلم إلى مستشفى السويكة، قرر الأطباء المختصون والمسؤولون التخلص من الحمار لأنه كالكلب المسعور، ربطوا حول بطنه ورقبته أسلاك كهرباء “وايرات مجروحة”، شغل التيار الكهربائي بقوة 220 فولت، صعق جسمه صعقًا، انتفض كامل الجسد لثوان حتى لفظ أنفاسه الأخيرة تحت أنظار المرضى والممرضات المتجمهرين من فتحات النوافذ والشرفات، تمت تصفية حيوان مؤذٍ وخطر على حياة الناس عام 1977 ميلادية.

حسب كلام الفلاحين والصيادين والحمالين “الحمارة” بأن الحمير أليفون على الدوام، لكن تأتي لحظة غير متوقعة يصبحون فيها “مستلهفين” يتحولون لمجانين، خطرين على الإنسان.

بالرغم من لوثة الجنون التي تصيب هذا الكائن الأليف الذي وطئ ظهره الإنسان منذ أكثر من 10 آلاف سنة في تخليص شؤونه عبر النقل والترحال
وحراك العمل إلا أنه أقل ضررًا بمراحل من مخاطر السيارات.

قد يكون زمن الحمار ولى وليس أحد في بيئتنا يحتاج إليه، لكن توالت علينا مصائب السيارات التي حولت الشوارع إلى أفخاخ تلتهم أرواح البشر.

بالأمس لا غنى عن الحمير بالرغم من أذاهم المباغت لكنهم لم يزهقوا روحًا لحد الممات حسبما سرد من قصص، يظل الإنسان الذي سخرت له الدواب ماضيًا والسيارات حاضرًا ، يدفع ضريبة راحته، ولا مجال لقياس المطيتين، بين تعامل روح مع روح وبين روح وحديد، وأي جنون فعله الحديد بالأرواح.



error: المحتوي محمي