لكنَّها لم ترحل «17»

تجيء صباحاته مُختلفة عن الآخرين، كلما فتحت عينيَّ في الصّباح، أتصفح موقعه في “الفيس بوك”، وأقرأ ما يجود به يراعه، فالصّباحات في دنياه لها طعم الفُستق، ورائحة التوت..

كتب هذا الصّباح:
للصّباحات في عينيكِ شيء، كرغوة الماء، صباح الأحمر من شفتيكِ النّابضتين بالحُب، يرسمني النَّدى، ليهطل على وجنتيكِ، أتنفس عبير كلماتك، التي لم تُكتب، كالشّفاه التي تنتظر المطر.

ما هذا الجمال، كأنَّه يرسم لوحة فنية بكلماته، حقًا ياسمين، كلماته تبعث على الأمل، حريّ بهكذا كلمات، أن يبدأ الصّباح، لتعيش الوقت بكُلّ نشاط، وتفاؤل، نحن نتوق إلى الكلمة الطّيبة، الحنونة، التي تُعيد تركيب النّظر إلى الحياة، نحن إلى الشّغف إلى الكلمة الحنونة، التي تُشعرنا بالاهتمام..

إنَّ الإنسان يفتقد العاطفة بكُلّ ألوانها، أن تُدغدغ الكلمات رُوحه، أن يبتسم، أن يتجلد في مواجهة صُعوبات الحياة، كلماته تُبحر بي، كأنَّه يقرأ ما يخالج ذاتي من الغياب، من التيه عندما أقوم برسم لوحة ما، لأبتعد عن عالم الحسّ إلى اللا حس، لأقترب أكثر إلى طيف يُشبهني، يُمسك بالرّيشة معي، لنرسم، ويُصغي إلى قلبي، ويُغمض عينيه في عينيَّ، كلانا لا يُبصر إلا ظلمة اللّحظة، وكلانا يُبصر ما وراء الظُلمة، في كلّ سواد ثمَّة ضوء، من يستطيع أن يُبصره، ويتقاطع معه؟ تبوح حنان

دائمًا أجدكِ الإحساس الذي أحسه، انظري إلى هذه الكلمات، توقفت عندها طويلًا، أحاول جاهدة أن أفك أحقيتها، لا أعلم أيّ عالم، يتحدث عنه، لغته تجذبني لأكتشف من يكون هذا المجهول، الذي غالبًا، ما تستوقفني كلماته، كأنَّه يعلم ما بي، وما أرنو إليه، يلمس بأحرفه وجعي، وصمتي..

كتب: يُبعثرني الحنين..
هل أجد في حضنكِ ما يُرتب كلّ هذا الدّفء؟، اجعليني قطعًا في قلبكِ، تنتظر يديكِ..
فتحت حنان عينيها، كابتسامة خجولة، وطلبت منها أن تُعطيها موقعه في “الفيس بوك”، لتقُوم بإضافته، ومُتابعة ما يكتبه..
وافقت ياسمين، وقامت حنان بطلب إضافة هذا المجهول، لتُدخله حياتها، وفي داخلها ما يشي بما تعلم ماهيته، يبدو أنَّها أرادت أن تُصغي إليه لا أكثر..
يبدو أني سأغرم به.. تضحك حنان في مُشاكسة بريئة
بادلتها ياسمين على غرار البراءة ذاتها..
كم اشتقت إلى عبير.. تُخاطبها ياسمين
تُجيبها حنان..
الأسبوع القادم، ستخرج من عزلتها، ستجيء إلى الجامعة، وتُكمل دراستها، فقد أتعبتني كثيرًا، لأستطيع الظفر بإنقاذها لإكمال دراستها، فقد كانت تُريد ترك الجامعة، لتكون بجانب أمها، وأختها المريضة..
الفراق صعب يا حنان، فكيف إذا الفراق، لمن هم توأم القلب والرّوح؟
كان الله في عونها، ولطف بها..
لا تقلقي عليها.. ، عبير إنسانة قوية، وقد تحملت المسؤولية مع والدها، فكانت تُشاركه في أعماله التّجارية، إضافة إلى اشتغالها في عمل الحلويات عبر متجرها الإلكتروني، تُلبي رغبتها، وتُساعده في احتياجات الأسرة.

يظن البعض أن المرأة مكانها المطبخ، أو عالمها الأنثوي، الذي تكون فيها الزّهرة المُدللة فقط، أنها لا تستطيع -إلى جانب الرجل- تحمل المسؤولية، في عدم قدرتها على مُواجهة الحياة، لتكون العنصر الذي يستقبل، لا العنصر الذي يُعطي، فكم من تاء التّأنيث، قد وضعت بصمتها على امتداد التّاريخ، وفي مسافاته القادمة، لتُبدع في شتى الأصعدة، والمجالات، إنها فقط تحتاج أن تطلَ من شُرفتها، لتحتضن الضّوء. تستطرد حنان في اعتزاز

إن المرأة، التي تمتلك الحس بالمسؤولية، وتحمل في قلبها عاطفة جياشة، كطفلة بريئة، تتعامل من خلال عاطفتها، ستعود إلى عنفوانها مهما عصفت بها الرّياح القاسية، ولو بعد حين..
وهكذا عبير.. تستمر حنان في إفاضاتها
بادرت حنان إلى التّوجه إلى حُجرتها على غير عادتها.

تعجبت ياسمين من تصرفها، فقد كانت تستأنس في اللّحظات، التي تقضيها بجانبها، إلى درجة أن ياسمين، تغفو عيناها بُرهة، وحنان تقُوم بمُشاغبتها، وتسكب على وجهها قطرات من الماء، حتى لا تستغرق في النّوم، وهي تضحك..
منحت جسدها فُسحته، ليستريح، في هذا العصر قد أصبحت قنوات التّواصل الاجتماعي الرّفيق، الذي لا يُفارق الإنسان، فقد عقد معه وثيقة تواصل، لا استغناء طرف عن آخر..
فتحت صفحته، على “الفيس بوك”، اغرورقت عيناها بالدّهشة، وهمست في داخلها..
لقد قبل إضافتي، لأتجول في ساحته، الآن..
شوق عارم، يخترق شغفها، لا تعلم سببه، أكانت من باب حُب الاستطلاع، تهفو إليه، أم ثمّة شيء آخر، يُحرك أصابعها..
قرأت ما كتبه للتو:
لدموع عينيكِ وجع الأيام، تنحدر على وجنتيَّ، تغسلني بآهاتها، ألمسها، وتلمسني، أنفاس دمعكِ، تستفيق على شفتيَّ، لأبوح بالكلمات في شفتيكِ..
سأكتبكِ إلى أن يغيب النبض في نبضي، وأرسم ملامح وجهكِ في ضوء الشّمس، وقصائد الشّعراء، وأنفاس حنان الأمهات..
يا أنتِ..
لا شيء.. ، سوى أن تغرقي في ذاتكِ، وتكون وحدتكِ الأشهى لديكِ عن كلّ الأشياء، نحن نذهب للعزلة، لأنّنا نشتاق إلى أنفسنا، نرغب في أن يبحث أحد عن ظلّنا، وأشواقنا، أن يكتب كلماته على العُشب، ليُعانق الأمنيات في ملامحنا، ألواننا، لونكِ خارطة البوح بي..
حدقت حنان في النّافذة المُطلة على الحديقة، تتأمل النُجوم في ظلمة اللّيل..
هل سأبصر هذا المجهول، الذي تقاطع مع رُوح صديقتي ياسمين، والذي استطاع أن يخترقني بكلماته؟



error: المحتوي محمي